الأوضاع المعيشية أيضاً أولوية غالب ابو مصلح وما بعد يوم تبرز التناقضات الاقتصادية والاجتماعية أكثر وأكثر في المجتمع اللبناني، بعد ان طال غيابها عن الفعل السياسي والاصطفافات الشعبية. ربما كان لغياب برنامج اقتصادي اجتماعي لدى الاحزاب الوطنية ولدى قوى المعارضة بشكل خاص تفسير لذلك. فقد استطاعت الطبقة الحاكمة، عبر التهريج السياسي وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، ان تشد انتباه قطاعات واسعة من الجماهير، وان تمتص ولاءات شرائح واسعة من المجتمع، عبر جر النقاش والحوار السياسي بعيداً عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وان تغيب عن وعيها التدهور المستمر في اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام. وعمدت الطبقة الحاكمة الى تخويف الطوائف بالطوائف، والمذاهب بالمذاهب، لإبقاء الجميع في دائرة الخوف على المصير. ومن استطاع تخويف الجماهير، استطاع قيادتها الى حيث يريد، متجاوزاً مصالحهم الاقتصادية وثوابتهم الوطنية والأخلاقية. ليس ذلك ابتكارا لبنانيا، بل ربما كان ابتكارا نازيا طرحه «غوبلز» إبان عهد الرايخ الثالث، وتلقفته الامبريالية الأميركية وطورته منذ ذلك الحين. فقد تم التخويف من الشيوعية ومن الاتحاد السوفياتي على مصالح الأميركيين ونمط حياتهم، بل على وجودهم، مما مهد الطريق لسيادة المكارثية واستمرارها بشكل ما بعد كبح جماحها في أميركا في الخمسينيات، واعادة اطلالها مجدداً مع بداية الألفية الثالثة، وانفلات الامبريالية الأميركية من عقالها، وخاصة في الشرق الأوسط. بواسطة التخويف من الاسلام الموصوم بالارهاب، يتم حشد الدعم للسياسات الامبريالية الجديدة، للتوسع الأميركي، بدعوى تعميم الديموقراطية والقضاء على الارهاب، أي على مقاومة الجماهير للهجمة الامبريالية الصهيونية الشاملة، والتي تجسد مصالح الرأسمالية العالمية في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة، مصالح الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، المحدودة بالربح، والمندفعة لممارسة أوسع وأبشع أنواع الهيمنة والاستغلال، وخاصة في بلدان العالم الثالث. وفرضت الامبريالية هذا النهج على الأنظمة التابعة لها في العالم، وفي الوطن العربي بشكل خاص. في القرن الماضي وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت أميركا تعمل على تخويف العرب، وخاصة الأنظمة، بالشيوعية، لتغييب التناقض الأساسي مع هيمنتها وعدوانية قاعدتها الصهيونية. بعد ذلك نصبت الامبريالية الإسلام على عرش «الارهاب الدولي» بغية تبرير توسعها وهيمنتها. أما على الصعيد العربي، فقد نصبت ايران وثورتها الإسلامية كفزاعة لدول المنطقة وشعوبها، وصنفت جميع المقاومات التي تتصدى لهيمنتها كحركات إرهابية تابعة لإيران وفي خدمتها. وما انفكت الدمى التابعة والحاكمة في لبنان تعزف دون ملل على وتر «الصراع العربي الفارسي»، والتخويف من المقاومة الإسلامية «الشيعية» لتغييب التناقض الأساسي مع التهديد الامبريالي الصهيوني الذي طرد من معظم أرض الجنوب لينبت في السلطة في بيروت. وكذلك لتغييب لأخطار السياسات الاقتصادية الاجتماعية التي تمثل فحوى الهيمنة الامبريالية، ومصالح الطبقة الرأسمالية الريعية الحاكمة. ولكن «الجوع كافر»، وقادر على إزاحة الغشاوة عن أعين المخدوعين، ولو بعد حين. ومحاولة رمي مسؤولية تردي الأوضاع المعيشية للبنانيين على عاتق المقاومة والمعارضة، وعلى عدوان تموز، وليس على عاتق السياسات النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية للحريرية السائدة حتى اليوم، لن تقنع إلا الأغبياء والجهلة من اللبنانيين. فتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان بدأ بشكل واضح منذ سنة ,1996 أي قبل اغتيال الرئيس الحريري وقبل ظهور المعارضة لورثته في الحكم وقبل عدوان تموز. وتردي الأوضاع المعيشية لتصل إلى ما نحن عليه لم يتم بين ليلة وضحاها، بل تراكم عبر خمس عشرة سنة على الأقل، ونتيجة نهج بدأ في أواخر سنة 1992 وما زال مستمراً حتى أكثر من 2.3 مليار دولار إذا ما احتسبنا كلفة مقايضة السندات التي يجريها مصرف لبنان وتتحمل الخزينة 80? من كلفتها، بسبب حسم هذه الكلفة من حصة الخزينة من أرباح المصرف. أي ان الفوائد على الدين بلغ معدل وقعها على الفرد في لبنان 836 دولاراً يدفعها كل لبناني سنوياً كمعدل عام، عبر الضرائب غير المباشرة بشكل أساسي، والتي يقع عبؤها على الطبقات الضعيفة وأصحاب الدخل المحدود. أي ان معدل الضخ المالي من جيوب الطبقات الشعبية خاصة الى جيوب المصارف والأثرياء يبلغ معدلها السنوي أكثر من 3500 دولار للعائلة المؤلفة من خمسة أفراد، وذلك فقط لخدمة الدين المتنامي وليس لإيفائه. وتراكم هذا الدين بسبب رفع الفوائد الحقيقية على سندات الخزينة إلى معدلات لا تتطلبها السوق، بل يفرضها التواطؤ بين وزارة المالية ومصرف لبنان وجمعية المصارف. فبين سنتي 1995 و,1998 وبعد أن تم خفض الفوائد الفاحشة على السندات في السنوات السابقة، بلغت الفائدة الحقيقية حوالى 20? إذا ما احتسبنا تحسن سعر صرف الليرة بالنسبة للدولار. فقد كانت الفائدة الفعلية على سندات الخزينة لسنتين حوالى 24? سنة ,1993 وبلغ معدلها حوالى 23? لسنة ,1996 بينما بلغ فائض الأموال لدى الخزينة في حسابها الدائن لدى مصرف لبنان أكثر من 2423 مليون ليرة. أي ان السوق المالية أعطت الخزينة أكثر من حاجتها بكثير عند معدلات هذه الفوائد، وكان بإمكان الخزينة ومصرف لبنان خفض الفوائد بمعدلات كبيرة لتغطية عجزها، ولكنها لم تفعل ذلك ارضاء للمصارف وحفاظا على ربحية المصارف. فقد ارتفعت ربحية المصارف بين سنة 1993 و1996 بنسبة 217.2 ?، وارتفعت حتى سنة 1998 بنسبة 408?. وبينما كان معدل المردود على رأس المال في العالم يقل عن 10?، حققت المصارف اللبنانية مردوداً على رأسمالها، وباعترافها، بلغ 7,38? لسنة ,1993 وانخفض هذا المعدل الى 25.1 ? لسنة .1996 وبذلك ارتفعت رؤوس أموال المصارف بأكثر من 1000? خلال ما لا يزيد عن سبع سنوات، بينما تدنت رؤوس الاموال الموظفة في قطاعي الصناعة والزراعة بسبب الاهتلاك وتناقص التوظيفات، لتدني مردودية هذه التوظيفات. فقد كان معدل مردود التوظيفات في هذه القطاعات أدنى بكثير من كلفة الأموال، وبذلك توجهت التوظيفات الى تمويل هدر الخزينة اللبنانية. هذه هي السياسات المالية والنقدية التي أوقعت لبنان في فخ المديونية وأخضعته لوصاية إجماع واشنطن والى زيادات متلاحقة في الضرائب غير المباشرة التي تسرق اللقمة من أفواه غالبية اللبنانيين وترميهم في البطالة والفقر والجوع والبرد، وتطردهم الى أقصى بقاع الأرض. كما أن هذه السياسات وسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، فولدت طبقة من أصحاب المليارات، حيث أقل من 1? من اللبنانيين يستحوذون على أكثر من 50? من الناتج المحلي القائم. وبسبب غياب الإحصاءات الاجتماعية، من الصعب الكلام بدقة عن نسب توزيع الناتج بين شرائح المجتمع. ولكن بعد الأرقام لها مدلول واضح: ف 8 فقط من اللبنانيين البالغين لديهم حسابات مصرفية، أي ان بقية اللبنانيين لا يملكون اية مدخرات. وتقول الإحصاءات في أواسط التسعينيات من القرن الماضي أن 72.22 ? من الحسابات المصرفية تمثل 4.48 ? من الودائع، وان 0.53 ? من الحسابات الدسمة (والتي تمثل حكماً أقل من 0.15 ? من الأفراد، اذ ان الفرد من الأثرياء يملك أكثر من حساب في أكثر من مصرف) يملكون 40.63 ? من الودائع. والبنوك في خدمة الأثرياء جدا في الوقت ذاته. ف 78.65 ? من الحسابات المدينة مثلت 7.69 ? من مجمل القروض للقطاع الخاص بينما مثل 0.89 ? من الحسابات المدينة (والتي تمثل أقل من 0.225 ? من الأفراد) حوالى 9? من قيمة القروض. وحصل مقترض واحد، باسم العديد من شركاته، على 8.2 ? من مجمل قروض المصارف في لبنان. إن تغيير هذا الواقع يفرض إحداث تغيير كامل وعميق في جميع السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية، بغية بناء مجتمع الكفاية والعدل، بحيث يتم خلق فرص العمل اليوم. والذي يتحمل مسؤولية هذا التردي الشامل، بل هذا الانهيار، هو الرئيس الحريري، الذي قاد اندفاعة الطبقة الحاكمة لاسترجاع دورها ودور لبنان الاقتصادي الذي لا يمكن استعادته. وسلك الحريري نهج الليبرالية الاقتصادية الجديدة بحماس المبشرين ودون تردد، ووضع لبنان منذ وصوله الى السلطة تحت وصاية إجماع واشنطن. فقد أمسك الحريري بالقرار الاقتصادي الاجتماعي عبر إمساكه برئاسة وزارات المالية والاقتصاد والعدل، ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ومجلس الإنماء والإعمار، وعبر تعطيل أجهزة الرقابة والمحاسبة وتفريغ الإدارات العامة من كوادرها الأساسية، واعتماد جيوش من المستشارين غير المسؤولين، الدوليون منهم والمحليون. أما المجلس النيابي، فلم يكن له عبر تاريخه الطويل أية فعالية في الرقابة والمحاسبة، او حتى إبداء الرأي في الشأن الاقتصادي الاجتماعي وفي السياسات الاقتصادية الكلية. فالسياسات التي أغرقت لبنان في فخ المديونية، بحيث وصل الدين العام الكلي المعلن وغير المعلن، الى اكثر من 47 مليار دولار، أي اكثر من 12.5 الف دولار للفرد، وضع لبنان تحت وصاية صندوق النقد والبنك الدوليين، وتحت وصاية الدول الرأسمالية الكبرى التي عقدت مؤتمرات «باريس» المتتالية، وأعطت جرعات مخدرة بمشروطية للبنان وأجبرته على اتباع السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي ارتأتها. ان السياسات التي أغرقت لبنان في فخ المديونية لم تكن مجرد خطأ في التقدير، او نتيجة ظروف قاهرة وعابرة كتلك التي أغرقت معظم دول العالم الثالث غير المنتجة للنفط في فخ المديونية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. فارتفاع ثمن النفط ومشتقاته دفع تلك البلدان الى الاستدانة مع تدني أسعار المواد الزراعية والخامات التي تصدرها، وذلك لسد عجز ميزان مدفوعاتها. ودفعت المصارف الغربية، وخاصة الأميركية منها التي تولت إعادة تدوير الفوائض المالية لدى الدول النفطية، دفعت بلدان العالم الثالث الى الاستدانة فوق حاجاتها الحقيقية، وعبر إقحامها في برامج تنموية طموحة جداً، وبناء مؤسسات تفوق إنتاجيتها حاجة هذه البلدان، وذلك عبر توقعات مستقبلية للنمو مبالغ فيها كثيرا، كما حصل في لبنان. فقد قدرت شركة «بيكتل» الأميركية الحاجات المستقبلية للبنان، حسب توقع ان يحقق لبنان نموا اقتصادياً حتى سنة 2000 بمعدل 8?، ودفعته لبناء مؤسسات عامة خدماتية وإنتاجية لملاقاة هذه التوقعات. ولكن معدلات النمو الفعلي كانت أقل من 2?، وبالتالي نستطيع ان نقدر مدى الهدر في بناء هذه الطاقات على صعيد البنية التحتية. كانت الفوائد على الديون في السبعينيات متواضعة تستطيع معظم دول العالم الثالث تحملها. ولكن القروض المصرفية تعطى بفوائد عائمة، وبالتالي فهي تتحرك مع متغيرات أسعار الفائدة العالمية، وخاصة الفائدة على الدولار. وفي الثمانينيات، وعندما ارتفعت الفائدة على الدولار الى معدلات قياسية بلغت أكثر من 18?، عجزت هذه الدول عن خدمة مديونيتها، وخاصة مع تردي شروط التجارة الخارجية لدول العالم الثالث، فوقعت تحت سيطرة «إجماع واشنطن» الذي أمسك بتلابيبها وأخضع سياساتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية لمصالح شركاته المعولمة، حسب ايديولوجية الليبرالية الجديدة، وشرع أسواق تلك البلدان للنهب والاستغلال الخارجي والداخلي. أما في لبنان، فكان الوقوع في فخ المديونية عبر السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها وما تزال الحكومات الحريرية المتتالية. فقد رفعت هذه الحكومات الإنفاق الجاري وغير المجدي بنسب مرتفعة جداً، وبشكل متصاعد. فقد بلغ ارتفاع إنفاق الخزينة (بجانب انفاق مجلس الإنماء والإعمار) بين سنة 1992 و8 1996,242?. وارتفع عجز الخزينة بنسبة 164?، وذلك خلال أربع سنوات فقط. وارتفع الدين العام الداخلي خلال هذه الفترة بنسبة 7,258? والدين الخارجي بنسبة 420?. وبذلك انزلق لبنان الى فخ المديونية وأخذ الدين العام ينمو بديناميته الخاصة وبفعل معدل الفوائد المرتفع جداً. فقد بلغ هذا الدين العام، رغم مؤتمرات باريس، أكثر من 46 مليار دولار عند نهاية سنة ,2007 وبلغت كلفة الدين في سنة 2007 المنتجة لكل لبناني قادر وراغب في العمل. وليتم توزيع الناتج المحلي بشكل عادل، بحيث يستطيع جميع اللبنانيين تقريباً العيش فوق خط الفقر الذي يقدر في لبنان بدخل حقيقي مباشر يتجاوز 720.000 ليرة في الشهر، وذلك عند مستوى الدخل الحالي في لبنان، والذي تقدره الحكومة بأكثر من 22 مليار دولار. هذا التغيير الملح والضروري يستدعي إسقاط حكم الطبقة الحاكمة حالياً في لبنان، وانتشال لبنان من الهيمنة الأميركية والاستتباع. يستدعي اصطفافات شعبية جديدة، اصطفافات الجماهير خلف مصالحها الحقيقية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بدل إغراقها في الانفعالات المذهبية للوقوف ضد مصالحها وضد حلفائها الحقيقيين ووراء من يمثل مصالح الامبريالية والصهيونية في لبنان. عن صحيفة السفير اللبنانية 7/2/2008