من سلام بارد إلي سلام عاصف! د.وحيد عبدالمجيد كثيرة هي الخسائر التي تحملتها الولاياتالمتحدة نتيجة انحيازها لإسرائيل.. وكم من مرة ضحي فيها صانع القرار الأمريكي بمصلحة بلاده إرضاء لحكومة أو أخري في إسرائيل, مقدما ما لا يملكه لمن لا يستحقه. غير أن خسارة واشنطن ستكون من نوع يصعب تعويضه إذا تعاملت مع الخلاف الراهن بين مصر وإسرائيل علي هذا النحو. ولعل الرئيس بوش يكون قد أدرك ذلك خلال محادثاته في مصر الأربعاء الماضي, والمأمول أن يكون قد فهم أيضا أن إسرائيل بدورها خاسرة علي الأرجح إذا واصلت اللعبة التي بدأتها سعيا إلي ابتزاز مصر وحشرها في زاوية لانتزاع تنازلات منها علي الصعيد الفلسطيني. فالخلاف المصري الإسرائيلي هذه المرة ليس مثله كل مرة, بالرغم من أن فلسطين وقضيتها هما في قلبه مثلما كانا وراء كل خلاف قبله, سواء حين كانت سيناء محتلة أو بعد تحريرها. فقد كانت هذه القضية في قلب العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ اليوم الأول للتحول الذي حدث فيها عندما زار الرئيس الراحل أنور السادات القدسالمحتلة في نوفمبر1977, فمن خطابه أمام الكنيست, إلي الاتصالات التي أجريت مع إسرائيل في الشهور التالية, إلي مفاوضات كامب ديفيد, كانت قضية فلسطين حاضرة بدرجة لاتقل عن مسألة سيناء. ومن أول خلاف ظهر علي تطبيع العلاقات بعد بدء التمثيل الدبلوماسي, وحتي الخلاف الأخير حتي الآن علي الانفاق, كانت قضية فلسطين هي المؤثر الأول والأهم علي مسار العلاقات المصرية الإسرائيلية طوال27 عاما من الزمن. ولكن إذا كان الأمر كذلك, ففيم يختلف الخلاف الراهن, وما يقترن به من توتر يبدو غير مسبوق بعد أن وصل إلي حد إقدام إسرائيل جهارا نهارا علي تحريض أنصارها في دوائر صنع القرار الأمريكي ضد مصر علنا واتهامها بأنها لاتبذل ما ينبغي من جهد لوضع حد لتهريب أسلحة وذخائر إلي حركة حماس في قطاع غزة حينا, وبأنها تتواطأ مع المهربين حينا آخر. كانت جهات إسرائيلية رسمية, وغير رسمية, تحرك اللوبي اليهودي في الكونجرس ضد مصر منذ فترة غير قصيرة, ولكنها كانت تفعل ذلك خفية ولا تظهر في الصورة, بخلاف ما رأيناه في التحرك الذي استهدف تجميد جزء من المعونة الأمريكية لمصر وربط صرفه بشروط معينة. وهذه هي المرة الأولي أيضا التي يفقد فيها أكثر من مسئول إسرائيلي, وليس سياسيا في المعارضة, الاتزان في الحديث عن مصر. ولذلك فالخلاف الراهن ليس مجرد حلقة في سلسلة الخلافات التي ترتبط موضوعيا باقامة سلام جزئي لا يشمل مختلف جوانب صراع تاريخي ممتد, ولا يحدث في ظله تقدم باتجاه حل المشكلة الرئيسية في هذا الصراع. فنحن إزاء خلاف ذي طابع خاص جدا يجعله مختلفا إلي حد كبير عن مجمل الخلافات السابقة, وربما يكون بداية لمرحلة جديدة من أنه يرتبط بالنسبة إلي مصر بأمنها القومي, وليس فقط بسياستها الخارجية والمبادئ التي تقوم عليها ومن بينها السعي إلي حل عادل لقضية فلسطين علي أساس دولة مستقلة في الأراضي المحتلة عام1967 وعاصمتها القدس. فإذا كان التغير الأهم الذي حدث في طبيعة دور مصر في الصراع العربي الإسرائيلي بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في عام1979 هو تحييد الجانب العسكري الأمني والتركيز علي الجانب السياسي في هذا الصراع, فثمة ما يدل علي أن تغيرا جديدا يحدث منذ أن سيطرت حركة حماس علي قطاع غزة في14 يونيو الماضي, فقد أثر الانفصال الذي حدث بين القطاع والضفة, واستئثار طرف يعتبر امتدادا لحركة أصولية عابرة للحدود وموجودة في عدد كبير من البلاد, علي مجريات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وموقع مصر في هذا الصراع وانعكاساته عليها, ومن أهم هذه الانعكاسات وجود مليون ونصف مليون فلسطيني تحت حصار خانق في قطاع غزة, ولا منفذ لهم إلي الخارج إلا الحدود مع مصر. ويفرض ذلك علي القاهرة أن تعالج الوضع الفلسطيني الجديد بميزان دقيق, فليس في مصلحتها, فضلا عن أنه ليس من مبادئها وأخلاقها, إحكام هذا الحصار الي الحد الذي ينوء عنه القطاع بأهله, فلا يجدون مهربا منه إلا عبر اقتحام حدودها. فكلما اشتد الحصار علي القطاع, أصبح مصدرا لتهديد أمني لمصر, وهذا متغير رئيسي لابد أن يؤثر في معادلات العلاقات المصرية الإسرائيلية, كما العلاقات المصرية الفلسطينية. ولذلك لا يمكن لمصر أن تقبل المشاركة في احكام الحصار علي القطاع وخنق مليون ونصف المليون فلسطيني من سكانه, ليس فقط لأن هذا يتعارض مع مبادئ سياستها الخارجية والتزاماتها الوطنية والعربية, ولكن أيضا لأنه يمكن أن يهدد أمنها القومي. وهكذا يتحول جانب رئيسي في الخلافات المصرية الإسرائيلية بشأن قضية فلسطين من خلاف مبادئ إلي خلاف مصالح, وليس هناك أهم ولا أخطر, بالنسبة لأي دولة, من المصالح الأمنية القومية. ويحدث هذا التغير, بكل تأثيراته علي العلاقات بين القاهرة وتل أبيب, في لحظة تشتد فيها المزايدات في داخل ائتلاف حكومي إسرائيلي مزعزع تتنازعه شخصيات واتجاهات شتي علي نحو يدفع بعض أركانه إلي التصعيد ضد مصر لأهداف داخلية. ومن شأن هذه الصراعات والمزايدات الداخلية أن تزيد الأجواء توترا عندما ينشب خلاف كبير مثلما حدث عندما اتخذت مصر قرارها الشجاع بالسماح لحجاج قطاع غزة بالعبور من معبر رفح دون اتفاق مع إسرائيل التي تزعم أن بينهم عناصر من حركة حماس يحملون أموالا من إيران وأن بعضهم كانوا في طهران حيث تلقوا تدريبات عسكرية. ولكن بغض النظر عن تفاصيل وملابسات مسألة مرور حجاج قطاع غزة ذهابا وإيابا, فالحاصل أننا في مستهل مرحلة جديدة في العلاقات المصرية الإسرائيلية والأرجح أن هذه المرحلة ستكون أكثر توترا, علي نحو قد يؤدي لتحول ما كان يعتبر سلاما باردا إلي سلام عاصف. عن صحيفة الاهرام المصرية 22/1/2008