لم يكن مفاجئاً لي، كما لم يكن مفاجئاً لغيري من المتابعين للشأن العراقي، ممن يهتمون بقضيته العادلة بتلك الخطوة الجريئة التي أقدم عليها ثلاثة عشر فصيلاً من أبرز فصائل المقاومة العراقية بإعلان الثقة والتخويل للشيخ الدكتور حارث الضاري، أمين عام هيئة علماء المسلمين في العراق؛ لأنَّ الرجل يعرفه القاصي والداني، رجلاً، شجاعاً، مقداماً، نذر نفسه في خدمة وطنه الجريح، بأداء وطني يمارسه منذ ما يزيد على ست سنوات من عمر الاحتلال.
فضلاً عن إصراره على مقارعة المحتل وأعوانه، وصبره أمام الابتلاءات التي تعرض لها، وصموده أمام المغريات، التي طالما وضعها الحالمون بين يديه، شريطة التخلي عن المبادئ والمواقف، وكذلك ما يتمتع به من رباطة الجأش وثبات على المبدأ ومطاولة للأعداء وصبر على البلاء وإسناد منقطع النظير لمشروع المقاومة في العراق على الرغم مما تعرض ويتعرض له من ضغوط.
ولعل ما يخفف من حدة التفاجئ أيضاً هي شخصية الشيخ الضاري وتراثه وتاريخه، وتاريخ عائلته المشرِّف، التي عُرفت بالمقاومة على مدى عمر العراق الحديث، منذ بدايات القرن الماضي، والتي تجسدت في موقف جده ووالده في قتل حاكم بريطانيا المدني في العراق (الكولونيل الإنجليزي لجمان) في عام (1920م)، وبالتالي فإنَّ تلك الشخصية التي اختارتها فصائل المقاومة ليست ببعيدة عن قلب وذهن وذاكرة الشعب العراقي الجماعية، وكذلك ذاكرة أمته العربية والإسلامية.
والحقيقة أن التفكير كان يراودني وأنا أقابل حاسوبي لكتابة هذه السطور في كيفية التعبير عن التوفيق الذي صاحب هذه الخطوة، وما رافقها من حسن الاختيار، وتذكرت عندها كلمات رددها الشيخ حارث الضاري منذ سنوات في مقر الهيئة العام بجامع أم القرى حينما خاطب بعض شيوخ العشائر الذين كانوا في زيارة للهيئة، قائلاً لهم: (( في هذه المرحلة نحتاج إلى كل قول سديد، وكل موقف شجاع وحكيم، فالرجال مواقف، والرجال تقوم عليهم الأمم، وتحيا بهم، فما أحوجنا اليوم إلى رجال ذوي عقل سديد ورأي رشيد )).
وصدق الشيخ.. فما أشبه اليوم بالبارحة؛ لأننا في وقت أحوج ما نكون فيه إلى رجال مثله، يدافعونَ وينافحونَ، ويعلون أصواتهم لاستعادة الحقوق السليبة لهذ الشعب، الذي اكتوى بنير الاحتلال، فضلاً عن حاجة المقاومة لمن يمثلها في المحافل الدولية، والمؤتمرات العالمية، حتى تستطيع قطف ثمرة جهادها المبارك، الذي اتخذته طريقاً تقاطرت على جوانبه دماء أبناء العراق البررة منذ بداية الاحتلال، في صولاتٍ وجولاتٍ شهد لهم بها الأعداء قبل الأصدقاء، جسدت أعظم ملاحم البطولة والفداء، التي ألحقت بالاحتلال جملة كبيرة من الخسائر المادية والبشرية، وتسببت بكارثة اقتصادية يعيشها المجتمع الذي أقدم جنوده وجيشه على احتلال العراق.
إنَّ إعلان تلك الفصائل التي تضم كبرى فصائل المقاومة العراقية الثقة بالشيخ حارث الضاري تعد خطوة جريئة ينبغي التوقف عندها، والدعوة موجهة هنا لبقية فصائل المقاومة الأخرى في أن تحذو ذلك الحذو، فتقوم بخطوة مشابهة، حتى تكون فرصة عظيمة وتاريخية لفتح الباب واسعاً أمام القوى المحتلة، في أن تعلن الهزيمة؛ من خلال الاعتراف بالمقاومة، واعلان الاستسلام والتفاوض، في سبيل استعادة حقوق العراقيين.. والتاريخ يحدثنا أن الوحدة تفتح ما تغلقه الفرقة والتشرذم.
ولعلَّ الإلحاح في دعوة الوحدة تتأتى من خلال معرفة المتابعين للشأن العراقي عموماً وشأن هيئة علماء المسلمين خصوصاً بشخصية الشيخ الضاري، فالرجل معروف بزهده في الدنيا، وعدم ركضه ولهثه وراء المناصب، وقد أتت الرئاسة إليه، وعرضت عليه، بل وضعت بين يديه، ولكنه رفضها، وكثير من الناس يعرفون ذلك، وساومه المحتلون وأتباعهم على المناصب مقابل التخلي عن موقفه الرامي إلى فضح الاحتلال ومخططاته ومشاريعه المشبوهة، ولكنه رفضها وضرب بها عرض الحائط..
ومن هنا فإنني أكاد أجزم بأنَّ قبول الشيخ حارث الضاري هذا التكليف والتشريف ربما سيأتي مقروناً بأن يكون ذلك التمثيل بمرحلة معينة، وذلك في تمثيل المقاومة والتحدث باسمها والدفاع عن حقوقها في فترة وجود الاحتلال، أما الفترة التي لحق تلك الهزيمة فإن غالب الظن انتهاء تلك المهمة؛ لأنَّ الشيخ الضاري لا يبحث عن رئاسات وزعامات، لأنَّ الله أغناه عنها.. ودائماً ما كان يردد : نحن في هيئة علماء المسلمين لا ننافس احداً على وظيفة، ولا نريد مناصب حكومية، ومهمتنا بيان ما يجب على المسلمين عمله في هذه المرحلة الحرجة من عمر العراق، في ظل الاحتلال.
إنَّ هذا التطور يبدو أنه جاء خطوة مهمة لأحراج المتطاولين -وفي مقدمتهم المشاركين في العملية السياسية في ظل الاحتلال- على أبناء المقاومة في عدم دقة وجهتها، وجهالة من يمثلها!! وفيه درس لإخراس تلك الألسن بعد أن اختارت المقاومة رمزاً وطنياً، وبالتالي فهذه خطوة غالية ومهمة، وتعد مرحلة تمهيدية وعتبة أولى في سلم مشروع تحرير واستقلال العراق.
وإننا إذ نشاهد صور التأييد لتلك الخطوة المباركة من قبل شرائح من المجتمع العراقي، فإنَّ تلك الصور بدت ترادفها صور تأييد دولية أخرى، دعت المؤسسات العربية الجامعة وعلى رأسها جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي بصراحة تامة لأن تكون الهيئة ممثلة عندهم للشعب العراقي الذي يقاوم الاحتلال، باعتبارها تحمل مشروعاً يدعو إلى إخراج المحتل، والمحافظة على هوية العراق ووحدته وثرواته.
وفي الوقت الذي ننقل فيه مثل هذه الدعوات في أن تقوم الحكومات والأنظمة الرسمية شرقاً وغرباً بالتفاوض مع المقاومة العراقية عبر شخص الشيخ الضاري، فإنَّ على الإدارة الأمريكيةالجديدة بقيادة (باراك أوباما) التي طالما تحدثت عن المصالحة مع الشعوب المسلمة أيضاً استغلال هذه الخطوة التي قد لن تتكرر في ضرورة التفاوض مع ممثل المقاومة التي علنته على الملأ لسحب قواتها من المستنقع الذي سقطت فيه.
مبارك للمقاومة انجازاتها.. ومبارك هذه الخطوة الطيبة.. وإلى مزيد من العمل المشترك الذي يعود بالنفع على العراق والعراقيين.. والله من وراء القصد.