شهر بعد أنابوليس .. المكتوب يقرأ من عنوانه ناصيف حتي كم تبدو أنابوليس بعيدة في الزمان بعد شهر من انعقادها. يبقى السؤال مطروحا هل استطاعت أنابوليس ان تكسر الجليد في دبلوماسية المسألة الفلسطينية الإسرائيلية مشكلة بذلك فاصلا بين زمنين أم أنها ألقت بحجر في مياه راكدة عادت بسرعة إلى ركودها غداة الاجتماع الدولي.
هل هدفت أنابوليس «لتخفيف الصراع» كما يقول شلومو افنيري الأمين العام السابق لوزارة الخارجية في إسرائيل أم أنها محاولة لتسوية الصراع لكنها تبدو محاولة تنقصها حتى الآن الإرادة السياسية الفاعلة.
يبدو ونحن غداة فشل الجولة الثانية من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أن إسرائيل تريد من مسار مفاوضات التسوية النهائية وهو المسار الذي يفترض أن ينطلق موازيا لمسار تنفيذ التزامات خريطة الطريق، يبدو أنها تريد «تخدير» الفلسطينيين ودفعهم «للنوم في العسل» من حيث توريطهم في مفاوضات يريدونها محددة وتريدها إسرائيل ممتدة ومفتوحة دون حسيب أو رقيب تغطي بها وبواسطتها سياسة فرض الأمر الواقع وتثبيته وتعزيزه في الأراضي المحتلة في عملية مناقضة للنتائج المرجوة من مفاوضات المرحلة النهائية:
نقيضة من حيث أن التغييرات الجغرافية والديمغرافية على الأرض ستمنع لاحقا قيام الدولة الفلسطينية متى تم التوصل إلى الاتفاق حولها. إذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه فإن جملة من المؤشرات تدل على الآتي في اليوم التالي لأنابوليس:
أولا، نجح أولمرت في البيان النهائي المشترك للاجتماع في رفض الإشارة إلى أي إطار زمني للمفاوضات كما نجح أيضاً في رفضه الإشارة إلى أي من قضايا التسوية الدائمة وحتى الإشارة إلى العودة إلى خط الرابع من حزيران كما تم الإلحاح عليه بهذا الشأن في اللحظة الأخيرة قبل صدور البيان فخرج منتصرا من حيث تحرير يديه من أي قيود وحماية ائتلافه الحكومي من السقوط.
ثانيا، أطلقت الحكومة الإسرائيلية حملة جديدة من الاستيطان عبر إعلانات متتالية عن بناء وحدات سكنية في منطقة القدس الكبرى التي تعتبرها السياسة الإسرائيلية خارج إطار التفاوض الفعلي وخارج إطار الأراضي المحتلة وحاولت هذه السياسة ان تدخل الفلسطينيين والأطراف الدولية في لعبة تعريف الاستيطان وجعله ضمن أصناف مختلفة بعضها شرعي وبعضها غير شرعي ويمكن البحث في إزالته.
فالنمو الطبيعي للمستوطنات ومنطقة القدس الكبرى تبقيان خارج المفاوضات حسب الفهم الإسرائيلي في حين أن «النقاط الاستيطانية المتقدمة» وهي نقاط أقيمت لأهداف إستراتيجية ترضى إسرائيل بتوصيفها بالاستيطان غير الشرعي وهو تعبير بدأ قبل أنابوليس بالدخول إلى الخطاب السياسي في دبلوماسية الصراع العربي الإسرائيلي وهو بالطبع تعبير خطير لأنه غير دقيق أساسا فكل استيطان غير شرعي طالما أنه يجري على ارض محتلة.
ثالثا، رفض إسرائيل المبدئي والتلقائي والسريع وتجاوب الولاياتالمتحدة مع ذلك الرفض بشأن صدور قرار من مجلس الأمن يدعم بيان أنابوليس: مرد هذا الموقف وخطورته هو تأكيد الاستمرار في سياسة إسرائيلية قوامها أن دورا للأمم المتحدة ولا لطرف ثالث حتى الأميركي يكون بمثابة حكم أو قاض يراقب بفعالية مصداقية كل طرف من طرفي الصراع في تنفيذ الالتزامات المطلوبة منه.
بحيث تنطلق عملية المفاوضات بين طرفين تحكمهما علاقة قوى غير متوازنة كليا دون أي دور دولي يفرض التفاوض ويفرض احترام ما تم الاتفاق عليه. وللتذكير فإن تاريخ المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بشكل خاص والعربية الإسرائيلية بشكل عام يدل على ان أي تقدم لم يكن ليحصل لولا دور أميركي منخرط في دفع المفاوضات وعلى أعلى مستوى ممكن.
رابعا، رغم النجاح الذي جاء به المؤتمر الدولي للأطراف المانحة للدولة الفلسطينية في باريس من حيث تحوله أو تحويله إلى مؤتمر سياسي اقتصادي لإعطاء دعم لما بعد أنابوليس.
ومن حيث الدعم المادي الذي نتج عن المؤتمر والذي فاق المطلوب، لكن تبقى حقيقة قائمة وهي ان المساعدات المباشرة ضرورية بالطبع ولكن الحديث عن المساعدات للتنمية في فلسطين تتطلب أكثر من توفير الأموال، إذ تفترض معالجة الوضع الاحتلالي الجاسم بقوة على الشعب الفلسطيني والذي يقطع أوصال الاقتصاد الفلسطيني كما يقول البنك الدولي في ورقة قيمة تدل على الوضع السوداوي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني على الصعيد الاقتصادي من جهة.
كما يحمل المسؤولية لسياسات الاحتلال التي تهدد بالانهيار الكلي للاقتصاد الفلسطيني من جهة أخرى. ويقول وزير خارجية النرويج، احد الأطراف المنظمة لمؤتمر المانحين، ان الاحتلال هو صلب المشكلة الاقتصادية في فلسطين.
وتصف الكاتبة سارة روا الأميركية اليهودية، المختصة بشؤون التنمية، السياسة الإسرائيلية في فلسطين بأنها تهدف إلى «نزع التنمية» في فلسطين مما سيؤدي إلى انهيار كامل للوضع الفلسطيني. فنتائج مؤتمر باريس لا يمكن ان ترى النور في إطار سياسة الاحتلال وإقامة الحواجز ومحاصرة القرى الفلسطينية وخنق الاقتصاد الفلسطيني.
خامسا، يبدو أن مؤتمر موسكو للمفاوضات الذي هو بمثابة مؤتمر متابعة وتنفيذ لأنابوليس ويفترض أن ينعقد في مطلع العام القادم يبدو انه تأجل بشكل مفتوح ولو ان البعض يقول انه سيعقد بعد الانتخابات الروسية في مارس القادم والكلام حول هذا الموعد هو بمثابة مخرج دبلوماسي.
علما ان التعثر الحاصل حاليا والرفض الإسرائيلي المتكرر والذي بدأ إيحائيا وصار شبه علني برفض عقد لقاء في موسكو بسبب الغضب من الدور الروسي في المنطقة وتحديدا بسبب تطور العلاقات الروسية الإيرانية، وعدم الرغبة الفعلية في القبول بموسكو كعراب آخر لعملية السلام المأزومة، كلها عناصر تدفع للاقتناع بأن مؤتمر موسكو صار مؤجلا بشكل مفتوح، أضف إلى ذلك فشل الوساطة التركية الألمانية في التحضير لإعادة إطلاق المفاوضات السورية الإسرائيلية، كعنصر مضاف إلى أسباب تأجيل المؤتمر المنتظر.
سادسا، رفض الحكومة الإسرائيلية لأي شكل من انواع الهدنة مع حماس والتأكيد على الاستمرار في سياسة المواجهة والتصعيد ضد الحركة مما يزيد من تعقيدات الوضع الفلسطيني من جهة والإسرائيلي الفلسطيني من جهة أخرى.
بعد أنابوليس يجد المراقب نفسه أمام المعادلة التالية أن ولوج طريق المفاوضات يضعف وقد يسقط الحكومة الإسرائيلية في حين أن عدم ولوج هذا الطريق بشكل فعلي يضعف ويربك ويعرض السلطة الفلسطينية لخطر السقوط. ويبدو أن الطرف الأقوى وهو الطرف الإسرائيلي الذي يعمل في وضع دولي موات.
ولو صدرت انتقادات هنا وهناك للسياسة الإسرائيلية، هو القادر على الإمساك بهذه المعادلة وتوجيهها في الاتجاه الذي يريده وحماية نفسه من سقوط الائتلاف الحاكم في إسرائيل في ظل غياب اليسار الإسرائيلي وازدياد قوة اليمين في مختلف أحزابه وتوجهاته.
ويبدو ان القضية الفلسطينية التي كانت قد وضعت على الرف لسنوات بسبب العراق ثم بسبب إيران ثم تحولت إلى مشروع بلورة «تسوية على الرف» حسب مقترح وزيرة خارجية إسرائيل أريد تحويلها مع أنابوليس من خلال إنزالها عن الرف إلى ورقة أساسية في الصراع ضد إيران.
لقد كان مؤتمر أنابوليس ذات عنوان فلسطيني وهدف إيراني والمطلوب في حقيقة الأمر ان يكون «اليوم التالي» لأنابوليس ذات عنوان تسووي وهدف فلسطيني، ذلك هو المدخل الصحيح والسليم لإزالة أهم فتيل تفجير في منطقة الشرق الأوسط. عشية زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة وهو الذي قال ان المطلوب تسوية المسألة الفلسطينية قبل نهاية عام 2008.
وهو بالطبع أمر شبه مستحيل ازداد استحالة بعد الشهر الأول من أنابوليس، قد يكون الهدف الأكثر تواضعا ولكنه الأكثر إمكانية للتحقيق إذا ما توفرت الإرادة السياسية عند واشنطن بالأخص هو أن تشكل الزيارة الرئاسية الأميركية التي عنوانها الملف الفلسطيني الإسرائيلي بداية لأن يكون عام 2008 عام انطلاق المفاوضات الفعلية للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة ودائمة للقضية الفلسطينية. عن صحيفة البيان الاماراتية 30/12/2007