هل فات أوان لجم مؤامرات تقسيم وتشطير العراق؟ د. محمد الدعمي للمرء أن يتوقع أن نوري المالكي ، رئيس وزراء العراق ، سيضيق ذرعاً في لحظة ما من اللا مركزية والمحاصصة الزائدة ، خاصة بعد أن قاد هذان الشعاران إلى التمادي بتوظيفهما على نحو أناني وفئوي محدود ، الأمر الذي أدى تلقائياً إلى الاصطدام بالحكومة المركزية ببغداد. إن العراقيين وبعد عشرات السنين من الحكم الشمولي الطائفي العائلي قد سئموا من المركزية المفرطة المبالغ بها درجة تدخل الدولة في كل شأن ، ابتداءً بما يرتدي الناس من ملابس وانتهاءً بوزن الموظفين وقياس ارتفاع كروشهم ، مروراً بالقضايا المهمة. هذا السأم بل ، القرف ، قد قاد بدوره إلى ردة فعل قوية أدت إلى نوع من التحسس المفرط ضد كل سلطة تحاول التدخل أو أن تفرض نفسها أو أن توحي بذلك "من الأعلى". وهكذا أخذ الجمهور يتشبث بشعارات الحرية والديمقراطية كمضادات لكل ما يوحي بالمركزية. وقد تماشت الحكومات التي قامت بعد إسقاط النظام السابق عام 2003 مع هذا التيار الجارف باعتبارها قد جاءت ضد الدكتاتورية والتوتاليتارية ، ولكن على مضض، خاصة بعد أن أخذ اللا مركزيون ودعاة المحاصصة والأقاليم يتجاوزون حدود المعقول والمقبول حد المطالبة بأقاليم منفصلة (عملياً) عن المركز، أقاليم لها حقوق إنشاء جيوش واستثمار الموارد الطبيعية كالنفط بشكل مستقل عن بغداد ولها حقوق تمثيل نفسها دولياً. وللأسف فإن الإدارة الأميركية (وهذا يؤخذ على الرئيس بوش شخصياً) لم تضع حداً أو تقدم تحذيراً من نوع ما ضد التمادي في التمدد تحت غطاء اللا مركزية الدافئ، الأمر الذي أدى إلى تحول الشعار المغري واللطيف، غير المؤذي إلى أداة راحت تهدد الوحدة السياسية والجغرافية للدولة العراقية، كما يحدث اليوم على نحو ملفت في تسارعه. لذا جاءت ملاحظة رئيس الوزراء نوري المالكي بعد مقاساة ومعاناة واضحة المعالم من مضايقته ومحاولة اقتسام السلطة ومصادرة حقوق صناعة القرار التنفيذي التي كان يفترض أن تحصر ببغداد فقط. إن هذا موضوع حساس، وللمالكي كل مبررات الاحتجاج والتذمر، خاصة بعد أن تجاوزت مطالب الكرد حدود المعقول درجة مصادرة صلاحيات الحكومة الفيدرالية بتمثيل العراق في الخارج ، كما يجري اليوم عبر زيارات مسعود البرزاني (رئيس إقليم كردستان) لواشنطن ولباريس ، بعد أن تهكم بالسلطة المركزية عبر الصحافة والإعلام ، واصفاً إياها ب"عقليات" غير قادرة على استيعاب الجديد. ولا يدري المرء ما الذي يهدف البرزاني إلى تحقيقه من مثل هذه الزيارات "الرسمية" وما الذي يحاول تمريره ، ربما باسم القيادة العراقية، إلى مسامع الزعماء الغربيين ، الأمر الذي يفسر تساؤلات من نوع آخر: لماذا يقرر البرزاني إطلاق مثل هذه الأنشطة الدبلوماسية باسم إقليم كردستان بعد مدة قصيرة من محاولة إذلال وإضعاف الجيش العراقي في حوادث متفرقة (في خانقين، محافظة ديالى) على سبيل إشعار الحكومة الفيدرالية بالضعف وبالعجز عن تدارك هذا الوضع غير المتوازن. ومرة ثانية، لماذا لا يقوم المسؤولون الكرد بمثل هذه الزيارات مندمجين مع الوفود العراقية الرسمية؟ إن السبب واضح للعيان، وهو سبب انفصالي تقسيمي ، يرنو إلى إيصال رسالة للعالم الغربي مفادها أن البرزاني هو أهم وأكثر سطوة من رئيس الجمهورية ومن رئيس الوزراء، والدليل هو الإعلان عن استعداد إقليم كردستان العراق على استضافة قواعد عسكرية أميركية ثابتة على أراضي الإقليم، حتى دون الحاجة للتنويه إلى ضرورة الحصول على موافقة بغداد على مثل هذا الإعلان! إن المعنى النهائي لمثل هذه الرسائل واضح المعالم، وهو أن الأستاذ مسعود البرزاني يعتقد أن الأجواء الداخلية المتشظية في العراق، وأن الأجواء الدولية (بسبب ذات التشرذم) مؤاتية للإعلان عن الانفصال عن العراق أو لتمهيد الطريق لمثل هذا الإعلان، خاصة وأن هناك من الأحزاب الدينية الإسلامية المهيمنة على السلطة من تعتقد أن مواظبة الكرد على هذا المنوال يمكن أن تستثمر إيجابياً لصالح الجنوب الشيعي، كي يحاول هو الآخر الإفلات عن بغداد، ولو بحدود. هذا بطبيعة الحال ما يمكن أن يُقرأ عبر سطور و (تحت سطور) الخوف الهاجسي من تعاظم حركة الانفصال عن العراق خاصة من قبل الكرد. ولكن للمرء، من منظور آخر، أن يحذر بأن أي ثلم بوحدة العراق وبشخصيته الجيواستراتيجية إنما تتحمل مسوؤليته الإدارة الأميركية تحت قيادة الرئيس بوش أو اي رئيس آخر. إن الانتداب الدولي أو الأممي على العراق بعد غزوه إنما يعني بأن على الأممالمتحدة والقوى العسكرية التي نفذت الغزو ومن ثم الانتداب مسؤوليتين، هما: (1) الحفاظ على الأمن والسلم داخل البلد؛ (2) الحفاظ على وحدة البلد وتجنيبه كل ما من شأنه المساس بتماسكه وتواصل شخصيته الدولية منذ استقلاله عام 20-1921. لذا تتحمل الولاياتالمتحدة الأميركية الوزر الأعظم في مهمة الحفاظ على وحدة العراق ومقاومة كل معول أو فأس هدام يحاول أن يثلم الجدار الوطني الواحد من أجل فتح ثغرة عبر الجدار يمكن أن تمرر من خلالها أنواع المؤامرات على العراق وتاريخه ووحدته العتيقة. بل إن على الحكومة العراقية اليوم أن تلاحظ هذه "المسؤولية الأميركية /البريطانية" أولاً، في تحديد معالم الاتفاق الأمني بين العراق والولاياتالمتحدة، حيث التوكيد على واجب الأخيرة الحفاظ على وحدة العراق وإعادة السلطة والسيادة في البلد إلى أهلها من العراقيين. لذا يتوجب على الجميع الشد على أيدي الحكومة المركزية على نحو يضع حداً للمحاصصة واللا مركزية المفرطة أو للتدخلات الأجنبية من أجل الحفاظ على هذا الوطن الذي طالما تظللنا بفيء نخيله الباسق وتشربنا بمياهه العذبة، بين دجلة والفرات. عن صحيفة الوطن العمانية 10/11/2008