لبنان... حضارة واحدة لا حضارتان سامي مشاقة يتغنى بعض السياسيين بالصيغة اللبنانية كحالة فريدة. إذ إن الكيان اللبناني الذي نشأ على قاعدة الانقسام الطائفي الرئيسي بين المسلمين والمسيحيين بحيث أنتج ما سمي ب »الميثاق« غير المكتوب الذي ينهض على إقامة حكم طائفي مشترك استنادا الى مجموعة من الأسس والمفاهيم، تجعل من هذا الحكم صيغة فريدة للتعايش السلمي الحر بين الطوائف. وقد قُدّمت هذه الصيغة للخارج كنموذج يحتذى به لدولة ديموقراطية تتعايش فيها الطوائف مرتبطة بشبكة من المصالح الضرورية. إلا أن هذا النموذج الفريد الذي ما زال بعض السياسيين والمنظرين يرفعه كشعار متميز في منطقة المشرق العربي والشرق الأوسط عامة، اثبت عبر السياق التاريخي، أنه بناء فوقي لا يعكس بناء تحتيا مشابها له. إذ إن نظرة تاريخية فاحصة للكيان اللبناني منذ تأسيسه حتى الآن تثبت ان هذا النموذج لم يصمد طويلا، بل أصيب عبر التاريخ بهزات كثيرة بحيث بدا أن لبنان يخضع لمنطق ينهض على قاعدة كون تاريخ لبنان عبارة عن هدنة بين حربين. ذلك ان التقسيمات الطائفية لا يمكن ان تستقيم كحكم سياسي ديموقراطي ومتوازن، بسبب اولوية الولاء الطائفي، وبالتالي بسبب اولوية المراجع السياسية الطائفية. ولقد شهد لبنان الهزة الأولى بعد أربع عشرة سنة على انشائه عام 1958 فيما اصطلح على تسميته احداث ،1958 التي شكلت مقدمة ضرورية للحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975 واستمرت لما يزيد عن خمسة عشر عاما. وبالرغم من ان بعض السياسيين والمفكرين قدموا توصيفا لهذه الحرب بأنها حرب الآخرين على أرضنا لإثبات ان نظرية الميثاق والعيش المشترك ما زالت تملك المصداقية. وكأن اللبنانيين غير معنيين بهذه الحرب ويقفون موقف المتفرج على ما يجري. في الوقت الذي دفع فيه اللبنانيون من كل الطوائف أثمانا باهظة: خسارة كبيرة في الارواح والممتلكات، وكان من نتيجة ذلك خراب وتدمير البلد وتهجير آلاف اللبنانيين، وما زلنا حتى الآن نواجه مشكلة المهجرين والتعويض عليهم رغم مرور سنوات طوال. ان الواقع السياسي والاجتماعي والطائفي يؤكد ان البنية اللبنانية مؤهلة وتملك القابلية لانتاج حرب أهلية طوائفية بامتياز يمكن معرفة بدايتها ولا يمكن تقدير مسارها ونهايتها. وإلا فماذا نسمي عمليات الخطف والقتل على الهوية بصرف النظر عن الانتماء السياسي او عدمه. صحيح ان العامل الفلسطيني كان عامل تفجير إضافي الا انه لم يكن سببا رئيسيا الا ان بعض الفرقاء السياسيين ضخّم هذا العامل لدفعه الى المرتبة الأولى، تحت شعار ان الفلسطينيين يريدون لبنان دولة لهم بدلا من فلسطين. إلا ان الحرب الأهلية اتخذت مسارات خطيرة بحيث جرى تقسيم لبنان الى مناطق طائفية شبه مقفلة، جرى العمل الحثيث على تحويلها الى كانتونات تحكمها ادارة مدنية حاولت ان تتخذ كافة مظاهر الدولة او الدويلة. بعد ان جرى اخضاع كل القوى السياسية داخل الطائفة الواحدة للقيادة السياسية الأقوى عسكريا والهيمنة سياسياً. الا ان تكريس هذه الحالة الموضوعية كبنية تحتية واقعية، اقتضى بطبيعة الحال انتاج نظرية سياسية تشكل بناء فوقيا ضروريا، يوفر مشروعية قانونية للحالة الميدانية الراهنة. هكذا نجد ان التركيب الطائفي للكيان اللبناني الداعي الى العيش المشترك بين »العائلات الروحية اللبنانية أفرز نقيضه تماما، ما أدى الى تقسيم واقعي.. والى عداء طائفي ايضا. لقد شكل انتاج هذه النظرية أعلى مراحل البناء الطائفي، وهذه النظرية تنهض على اعتبار لبنان خاضعا لحضارتين متعارضتين: الحضارة المسيحية والحضارة الاسلامية وتم توصيف الحضارة المسيحية بأنها حضارة متقدمة عصرية وتنتمي الى الغرب »المتمدن« وتستشرف آفاق العصر والمستقبل، تؤمن بالحرية والديموقراطية نهجا سياسيا. بينما تم تصوير الحضارة الاسلامية كحضارة متخلفة رجعية تؤمن بالعنف وتستكين الى الارهاب الفكري والسياسي. ولعل هذا التوصيف الاعتباطي التعسفي صيغ لإثبات فشل فكرة العيش المشترك وصولا الى استحالة اقامة حكم سياسي موحد تتعايش فيه الاقليات الطائفية في ظل دستور واحد. ولعل الدليل الأبرز الذي قدم لدعم هذا التوجه، ان التزام المسلمين بالدين يحتّم عليهم اقامة الدولة الاسلامية، أي ارجاع عهد الخلافة الاسلامية وما يستتبع ذلك من فرض الجزية على المسيحيين لتوفير الحماية لهم في ظل الحكم الاسلامي، واعتبارهم كمواطنين من الدرجة الثانية. يتبين من ذلك ان المنظرين اخضعوا النظرية بصورة تعسفية خدمة للاهداف السياسية القريبة والبعيدة المدى. ان انقسام الواقع اللبناني الميداني الى كانتونات او مقاطعات وفّر لهذه النظرية بعضا من مشروعيتها الشعبية لدى فريق من اللبنانيين حاول الالتزام بهذا المنحى. وتوغلاً في هذا المشروع التقسيمي الذي طرح الفيدرالية او الكونفيدرالية جرى الاستعانة بمثال الاتحاد السويسري الذي يقوم على أساس حكم الكانتونات المرتبطة بسلطة مركزية. والواقع ان المثال السويسري لا يصح اعتماده كمرجع لأن سويسرا تتكون من مجموعة من القوميات والشعوب وتتحدث لغات متعددة. ولذلك لا يصح مقارنتها بالوضع اللبناني. ان القول بوجود حضارتين مسيحية واسلامية متعارضتين يناهض المنظور التاريخي، فيما نذهب اليه، فليس هناك حضارة مسيحية وأخرى اسلامية. وانتقائي ومغلوط تماما هذا التوصيف الذي أعطي لهما. ان هناك حضارة عربية واحدة تخضع لها كل منطقة الشرق العربي بل ان الحضارة العربية تعتبر رافدا رئيسيا في ما يمكن تسميته حضارة البحر الأبيض المتوسط، والحضارة العربية استلهمت واستوعبت كل الانتاجات الفكرية للفرس والروم والاغريق ولقد سميت بالحضارة العربية الاسلامية، لأن جانبا كبيرا من المفكرين والفلاسفة والشعراء والكتاب الذين كتبوا باللغة العربية كانوا من أصول غير عربية. وهذا ما يعطي الحضارة العربية صفة الشمولية. واذا افترضنا جدلا ان هناك حضارة مسيحية فما علاقة هذه الحضارة بالغرب، لقد نشأ السيد المسيح عليه السلام ونشر رسالته وعلّم مبادئه في قلب المنطقة العربية. ان هذا التقسيم الحضاري المفترض لا وجود له في الواقع الموضوعي، انما أقحم هنا اقحاما وقسرا لاثبات أحقية النزوع نحو فكرة الكانتونات. الا ان هذه النظرية لم يكتب لها النجاح لأسباب كثيرة، ولعل لاتاريخية هذه النظرية واحدة من الاسباب الهامة، اما السبب الأساسي والجوهري فيتقوم في ان هذه النظرية لا تتوافق وتتلاءم مع الواقع الموضوعي للبنان كأرض ووطن وشعب. فمساحة لبنان الجغرافية والتداخل العميق بين الطوائف في مختلف المناطق يجعل من التقسيم حالة مستحيلة، فضلا عن ان الشعب اللبناني هو شعب عربي وجزء من الأمة العربية، وله لغة واحدة وتاريخ مشترك واحد ويخضع لحضارة واحدة مهما حاول البعض تشويه هذه الحقائق. ولبنان جزء من الدول العربية وهو عضو في الجامعة العربية، بل هو أحد المؤسسين الأوائل للجامعة. واذا قيل ان المواطن اللبناني ينهل من ثقافات متعددة، فهذا لا يعني ان لبنان كمكون تاريخي يخضع لحضارات متعددة، فذلك يتعارض مع وحدته الجغرافية ووحدته الشعبية. والسبب الجوهري الاخير لفشل نظرية الحضارتين المراد من ورائهما قوننة التقسيم الجغرافي الدخول السوري على خط الأزمة اللبنانية عبر تفويضها انهاء الحرب الاهلية بغطاء دولي واميركي بشكل خاص. وبانتهاء الحرب الأهلية وعودة الاستقرار واعادة الاعتبار الى الدولة التي كانت مغيبة، تراجعت هذه النظرية، وشهدت أفولها. وتراجع المنظرون بعد ان تبين لهم الخط غير العلمي الذي انزلقوا اليه. ان الاستنتاج المنطقي الذي نذهب اليه هو ان أي كيان سياسي يلتزم الطائفية نهجا في الحكم السياسي، لا يمكن ان ينتج دوله عصرية قوية فضلا عن كونها ديموقراطية وعادلة. ولا بد لهذا النهج ان ينتج نقيضه موضوعياً. عن صحيفة السفير اللبنانية 8/11/2008