المهمة الأصعب أمام أوباما: استعادة ثقة العالم بأمريكا د. سعيد الشهابي ما لم يقع ما ليس في الحسبان، فسوف يتزامن صدور هذا المقال مع تغير في الرئاسة الامريكية لصالح مرشح الحزب الديمقراطي، باراك أوباما، وسوف تكون الانتخابات الرئاسية الامريكية ال 56 التي تجاوزت تكلفتها مليارين ونصف المليار من الدولارات، قد جاءت بأول رئيس أسود للولايات المتحدةالامريكية. يضاف الى ذلك ما انفق على انتخابات الكونغرس بغرفتيه، النواب والشيوخ، الذي يقدر بقرابة المليارات الثلاثة من الدولارات. وتعتبر الاشد تكلفة في تاريخ الممارسة الديمقراطية الامريكية. هذا في الوقت الذي يعاني فيه العالم والولاياتالمتحدة على وجه الخصوص من تراجع اقتصادي كبير. وبعد تراجع النمو الاقتصادي لعدد من الشهور المتوالية، اصبحت الولاياتالمتحدة رسميا تعاني من حالة الكساد، وهو أمر لم يحدث مثله منذ ثمانين عاما. هذه الأزمة سوف تتواصل فترة طويلة، لتكشف خللا ذاتيا في المشروع الرأسمالي الذي هيمن على العالم اكثر من مائة عام. ولا شك ان الرئيس الجديد سوف يبتهج، ومعه حزبه ومريدوه، وربما اغلب سكان العالم، بالفوز، ولكنه فوز يقلل من بريقه ما ينتظره من تركة ثقيلة خلفها الرئيس جورج دبليو بوش، الذي انتهت فترتا ولايته بهذه الانتخابات، والذي ترك وراءه ملفا كبيرا من القضايا العالقة التي تتطلب حلولا عاجلة. وفي مقدمة هذه القضايا حربان استنزافيتان وكساد اقتصادي خطير. ومن الصعب التنبؤ بمدى قدرة الرئيس الجديد، خصوصا اذا كان اوباما، على التعاطي مع هذه التركة الضخمة التي تستدعي اهتماما خاصا لاصلاح ما افسدته سنوات بوش والمحافظين الجدد. فقد أظهرت الازمة المالية التي انطلقت من الولاياتالمتحدة ثغرات كبرى في سياسات الانفاق الامريكية خصوصا في ما يتعلق بالحروب والتصنيع العسكري، وكشفت ان امريكا هي البلد الاكبر من بين دول العالم من حيث الديون، وان القوة العسكرية وحدها لا تكفي لضمان استمرار الهيمنة السياسية. عند تقييم اداء الرئيس يحتاج الامر عادة الى وقت اطول لاعادة فتح ملفات ادارته خلال حقبته الرئاسية. ولكن الرئيس جورج بوش تميز عمن سبقه من الرؤساء بوجود اجماع دولي على فشله في ادارة الملفات الرئيسية التي واجهته على مدى ثمانية اعوام من الرئاسة. وفي الوقت الذي يشعر الديمقراطيون انهم قد تمكنوا من استرجاع قدر من نفوذهم، فانهم في الوقت نفسه، يشعرون بان ما ينتظر الرئيس الجديد من تحديات وصعوبات يفوق طاقته كثيرا وانه سوف يجد نفسه محاطا بقضايا متداخلة لا يستطيع ايجاد حلول مناسبة لها جميعا. فهناك قائمة كبرى من السياسات الفاشلة للرئيس جورج بوش، حتى ليبدو انه عجز عن حل اي من المشاكل التي واجهت فترة حكمه. فالاقتصاد الامريكي يمر بأسوأ فترة له منذ الكساد الكبير الذي حدث في 1929 واستمر في النصف الاول من الثلاثينات. اما العراق وافغانستان فهما جرحان نازفان في الخاصرة الامريكية برغم ما تكبدته الولاياتالمتحدة من خسائر بشرية ومادية لاحداث التغيير فيهما. ولا يستطيع احد ادعاء نجاح خطة بوش لمواجهة الارهاب والتطرف، فهو يطل بعنقه من كل زاوية وفي كل مكان، مهددا امن العالم وسلامة البشر، ومنذرا بمستقبل قد يكون أشد خطرا في ما يتعلق بالارهاب والعنف والتطرف. ولم ينجح الرئيس بوش كذلك في التعاطي الواقعي مع قضية الشرق الاوسط، ولم يؤد دعمه المطلق للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة لحدوث تطور في التوجهات العامة لدى الفرقاء ازاء مشكلة فلسطين. ورغم ما كان قد وعد به من توقيع اتفاقية سلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين قبل نهاية العام، فان احدا لا يتوقع حدوث ذلك ابدا، خصوصا مع ازمة الحكم في الكيان الاسرائيلي والحديث عن انتخابات مبكرة العام المقبل. ولم يعد سرا القول بان جورج بوش كان أسوأ رئيس أساء لسمعة بلاده بسياساته الرعناء وجنوحه نحو الحرب بنمط غير مسبوق، حتى ان منظريه بذلوا جهودا في البحث عن اجابات مقنعة لسؤال جوهري: لماذا يكرهنا العالم؟ لقد تم خوض الانتخابات الاخيرة (لاختيار الرئيس وبعض اعضاء الكونغرس بمجلسيه) بنمطين متباينين للمرشحين الرئيسيين. فالسناتور جون ماكين، ومعه نائبته سارة بايلن، طرحا نفسيهما امتدادا لسياسات جورج بوش، وكان واضحا ان ماكين رجل عسكري من شأنه توريط امريكا مجددا في المزيد من الحروب العسكرية والمحاذير الامنية، بدون أي أفق لتحقيق مكاسب لامريكا في اي من هذه المجالات. وقد دفع ثمنا كبيرا لاختياره سارة بايلن، نائبة له، فأثيرت حولها المزيد من الضجة، وتم التشكيك في مدى نزاهتها وقدرتها على ادارة البلاد بقدر من الحكمة الاقتصادية، بعد ان تم الكشف عن انفاقها المسرف على الازياء التي تظهر بها امام الناخبين، وقدر انفاقها على الملابس باكثر من 700 الف دولار. كما ان خواء معلوماتها حول الشؤون الدولية وعدم قدرتها على استيعاب هموم المواطنين العاديين، ساهما في توسيع الهوة بين الناخبين وبينها، فأصبحت وبالا على حملة ماكين بدلا من ان تكون انعكاسا ايجابيا لها. واستطاع ماكين، اما بسذاجته او انفصاله عن الواقع الامريكي، توسيع الفجوة بينه وبين الجماهير فتراجعت شعبيته كثيرا، خصوصا مع تقدمه في العمر. ويبدو ان المرشح الجمهوري لم يستوعب التغيرات في النفسية الامريكية التي اصبحت اقل حماسا للمغامرات العسكرية وما يستتبعها من خسائر مادية وبشرية. وارتبطت شخصيته في اللاشعور الشعبي بحبه للسلاح والقتل، واصراره على انتهاج سياسات سلفه، وانه رجل حرب وليس رجل سلام. هذا الربط افقده الكثير من التعاطف، لان الامريكيين، كغيرهم، لا يعشقون الحرب خصوصا اذا كانت خاسرة ومكلفة ماديا وبشريا، ولا يعتقدون بانها الطريق الاقصر للسلام والامن والاستقرار. ان صورة الامريكي الشاهر سلاحه ضد البشر الآخرين ارتبطت بشخصية ماكين ونائبته، ولم يستطع الحزب الجمهوري تحسين تلك الصورة. ولم ترق أطروحاته السياسية حتى للمقربين منه، وفي النهاية ظهرت رموز كبيرة من الحزب الجمهورية لتعلن دعمها للمرشح الديمقراطي، باراك أوباما. وكان لموقف كولن باول، وزير الخارجية السابق، دور كبير في استمالة اصوات كثيرة لصالح اوباما الذي بدا بعيدا في عقليته عن النهج الذي فرضه المحافظون الجدد على السياسة الخارجية الامريكية خلال فترة رئاسة جورج بوش. كانت اطروحاته أقل جنوحا للعنف والحرب، واقرب الى التحاور وفتح القنوات مع الاطراف المختلفة مع امريكا في السياسات والتوجهات. فطرح استعداده لمقابلة الرئيس الايراني، محمود أحمدي نجاد، والرئيس الفنزويلي، هوغو شافيز، ووعد الناخبين بانتهاج سياسة امريكية جديدة تعيد شيئا من المصداقية والاحترام لهذا البلد الذي خسر المعركة الاخلاقية مع العالم. وفي الوقت الذي يتوقع فيه حدوث بعض التغييرات في السياسات الداخلية والخارجية، فمن المتوقع ان تكون محدودة، لان الرئيس ليس وحده الذي يصنع السياسات. كما ان حدوث تغيرات في تركيبة مجلسي النواب والشيوخ من شأنه ان يساهم في ذلك التغيير. مشكلة البلدان الكبيرة ان التغيير صعب فيها نظرا لتداخل الدوائر الاختصاصية في بعضها وتعدد جوانب القرار والجهات المختصة بتلك الجوانب. ونظرا للوضع الصعب الذي تعيشه الولاياتالمتحدة حاليا، اقتصاديا وسياسيا وامنيا، فكل ما يستطيع ان يفعله اوباما وضع خطط التغيير البطيئة، والاحتفاظ بما لديه من شعبية بسبب قدرته على مخاطبة مشاعر المواطنين، بشكل شبهه الكثيرون بالرئيس جون اف كندي الذي اغتيل في 1964. ان فوز اوباما يشير الى حدوث تغير في النفسية الامريكية بعد سبع سنوات من حوادث 11 ايلول/سبتمبر. كان الامريكيون آنذاك قد تم اخضاعهم لمنطق القوة والانتقام، ذلك المنطق الذي روجه المحافظون الجدد وتبناه الرئيس بوش. وعلى مدى السنوات السبع اللاحقة ارتكب ذلك الفريق أخطاء فادحة بتبني خيارات الحرب والابتزاز والاحتلال. ولكن تلك السياسة لم تحقق العظمة التي كان ذلك الفريق يسعى لها، بل دخلت في دوامة من العنف والعنف المضاد، سواء في العراق ام في افغانستان. وقد ادرك العراقيون صعوبة التعامل مع الامريكيين، خصوصا بعد ان سعوا لفرض اتفاقية بعيدة المدى تسلب العراق سيادته، وتعطي الجانب الامريكي حرية الحركة والالتفاف على قرارات الحكم المركزي في بغداد. وتمر العلاقات العراقية الامريكية في الوقت الحاضر بحالة من الفتور بسبب تلكؤ الجانب العراقي توقيع الاتفاقية المذكورة. وسوف يجد اوباما الموقف صعبا جدا. فهو يسعى لسحب القوات الامريكية بشكل كامل في غضون ثلاثة اعوام، بينما يصر الفريق الحاكم على تضمين الاتفاقية بنودا مطاطة حول الانسحاب وحول مقاضاة الامريكيين في حال ارتكابهم جرائم خارج دائرة عملهم اليومي. اوباما سوف يسعى لاعادة الثقة للاقتصاد الامريكي الذي يشارف على الافلاس بسبب الدعم غير المحدود للمؤسسات المصرفية التي هي عصب النظام الرأسمالي. وبالتالي فلن يكون الرئيس الجديد مطلق اليد في مجال العسكرة والاحتراب، وتوسع دائرة الحرب ضد الارهاب. فالارهابيون اليوم اصبحوا اكثر تعقيدا ومهارة في اختيار الوسيلة التي يضربون بها الطرف الآخر، وهذا يعني ان سياسات بوش ساهمت في تكريس الظاهرة الارهابية بدلا من مواجهتها واحتوائها. الولاياتالمتحدة مقبلة على بعض التغييرات، ومن المتوقع ان يطرأ تغيير على توجهات واشنطن خصوصا ازاء قضايا الارهاب والعراق وافغانستان. ولكن هناك جوانب صعبة للخيارات المتاحة للرئيس اوباما. من هذه الجوانب القضية الفلسطينية التي عجز جورج بوش عن تحقيق تقدم ازاءها. فقد مر عام كامل على اتفاقات أنابوليس بدون اي تطور حقيقي نحو السلام، ولا يبدو توقيع اتفاقية سلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين قبل نهاية العام امرا ممكنا. كما انه لن يجد الطريق معبدا لحل قضية افغانستان ودحر طالبان، خصوصا بعد ان اعلن اكثر من قائد عسكري غربي صعوبة تحقيق انتصار حاسم فيها. ولكن يبدو اوباما في موقع يؤهله لانتهاج سياسات اقل تشنجا ازاء قضايا اخرى. فمثلا يستطيع اوباما ان يبدأ حوارا جادا مع ايران حول القضايا موضع الخلاف بين البلدين، بشرط التخلي عن عقلية الهيمنة والاستحواذ التي كانت مهيمنة على عقليات الساسة الامريكيين في العهد السابق. يستطيع اوباما ان يتصدى لقضايا حقوق الانسان والحقوق السياسية في الشرق الاوسط بشكل جاد، ويتخلى عن المقولات الخاوية مثل 'مشروع الشرق الاوسط الكبير' او 'الشرق الاوسط الجديد' ويركز على التعاطي الواقعي مع مشاكل المنطقة خصوصا في مجال التنمية والاصلاح السياسي والاجتماعي. يستطيع اوباما ان يعيد قدرا من الامن والاستقرار الى العراق بسحب القوات الامريكية والتعامل مع العراق كبلد مستقل ذي سيادة، وذي نظام سياسي ديمقراطي قائم على اساس 'لكل مواطن صوت' بعيدا عن نظام المحاصصة او الفيدرالية. مطلوب من اوباما ان يدرك ان الولاياتالمتحدة تحتاج لقيادة بارعة لمنعها من الانزلاق الى الهاوية التي دفعها باتجاهها المحافظون الجدد في ظل رئاسة جورج بوش. ويكفيه ان ينظر الى الأفول التدريجي للايديولوجية السياسية والاقتصادية الغربية وصعود اقطاب اخرى في الشرق، ليكتشف ضرورة السعي لانتشال بلاده من مصير محتوم نحو الهاوية اذا لم يتحرك عقلاؤها لانتشالها من المحافظين الجدد والمسيحيين الصهاينة. فالصين وروسيا والهند مستمرة في تحقيق صعود اقتصادي مرموق، بينما الغرب يعاني من الكساد والازمات المالية وفشل النظام المصرفي وانهيار سوق العقار وارتفاع الاسعار. ان هذا الغرب بحاجة لقيادة تاريخية تتسم بالواقعية والانسانية وتشجع العمل الجماعي على الساحة الدولية، وتبتعد عن الانعزال والقرارات الفردية وانتهاك سيادة الدول الاخرى. الكثيرون سوف يسارعون لتهنئة اوباما، في حال فوزه بشكل اكيد، ولكن على اوباما وفريقه الجديد ان يدركوا ان فشل الجمهوريين انما هو عقاب لهم لما اقترفه جورج بوش وفريقه من أخطاء وجرائم، بما في ذلك اعتقال الابرياء وتعذيبهم في غوانتنامو وابوغريب والسجون السرية في شتى بقاع العالم، وقصف المناطق الآمنة في باكستانوافغانستان والعراق والصومال. وساهم في تعميق مشاعر الكراهية للادارة الامريكية التهديدات المتواصلة بضرب ايران وسورية ولبنان، والدعم المطلق للكيان الاسرائيلي الذي يمارس العدوان على نطاق واسع. لقد دعم العالم هذه المرة التغيير في الرئاسة الامريكية بشكل لم يسبق له مثيل، فلم يقتصر التصويت لأوباما على الشعب الامريكي، بل صوت له العالم، ليس بسبب لونه غير الأبيض، بل لما يمثله من رمزية سياسية وثقافية، وقطيعة مع 'إرث الرجل الابيض' في امريكا الذي عانى العالم منه كثيرا. والأمل ان صفحة حالكة السواد من التاريخ الامريكي قد طويت بسقوط اولئك النفر مثل جورج بوش وتشيني ورامسفلد وولفويتز وسواهم، وصعود نجم رئيس يختلف عنهم قليلا، برؤى جديدة ورغبة في تجنب اخطائهم، وتحويل الولاياتالمتحدة من نظام مكروه من شعوب العالم الى بلد محكوم بالعقل والمنطق والانسانية. اذا استطاع اوباما فعل ذلك، فسوف يكون قد أحسن لأمريكا ومعها العالم. عن صحيفة القدس العربي 5/11/2008