عن الاستمرار والتغيير في سياسة أميركا تجاه المنطقة د. إبراهيم عرفات تخرج أميركا اليوم إلى انتخابات جديدة. وبعد بضع ساعات ستُعلن النتائج. لكننا لن نعرف غير اسم المرشح الفائز. أما سلوكه فلن نكتشفه إلا بعد مرور قدر من الوقت. صحيح أن أوباما وماكين قالا عن منطقتنا خلال حملتيهما الانتخابية كلاماً كثيراً، إلا أنه كلام. وفي السياسة لا يمكن بناء الأحكام على الكلام، لأن الكلام كثيراً ما يتغير حينما يحين وقت ترجمته إلى أفعال. وليس أفضل في هذه اللحظة لذلك من الاستعانة ببعض العلامات الاسترشادية التي قد توضح حظوظ منطقتنا مع الإدارة الأميركية القادمة بين الاستمرار والتغيير. وأضع أمام القارئ الكريم هنا سبع علامات. العلامة لأولى: أن انتخابات الرئاسة الأميركية تبدو بالنسبة لكثير من مناطق العالم أشبه بموسم لتجديد الأمل في الولاياتالمتحدة ومحاولة لاستعادة الثقة المفقودة في سياساتها. ومنطقتنا العربية واحدة من المناطق الحالمة بتغيير المواقف الأميركية، بل هي في مقدمتها. إذ لديها أزمة ثقة عميقة في أميركا تود لو انتهت. فلما يزيد على نصف قرن كان العرب يجددون تمنياتهم مرة كل أربع سنوات في أن تكون الإدارات الأميركية القادمة أفضل من الراحلة. لكن تمنياتهم كثيراً ما أحبطتها المواقف الأميركية. ومع هذا لا يزال بينهم من يتمنى ومن يغلب الظن في أن تكون الإدارة القادمة أفضل بداعي أنه لا يمكن أن يكون هناك أسوأ من إدارة بوش الابن. لكن استطلاع رأي الجمهور العربي يُشير إلى أن الاستبشار بالرئيس الأميركي القادم ليس كبيراً، وأن الأمل في مرشح بعينه، حتى لو كان باراك أوباما، ليس مطلقاً. وهو ما أظهره استطلاعان للرأي العام أجراهما معهد جالوب وهيئة الإذاعة البريطانية تبين منهما أن شعبية أوباما وإن زادت على شعبية ماكين في كل الدول العربية والإسلامية، شأنها في ذلك شأن باقي دول العالم، إلا أن غالبية العرب والمسلمين لا تضع ثقتها في أي من المرشحين. فعلى سبيل المثال أشار 56% من الفلسطينيين و61% من المصريين و91% من الباكستانيين و70% من الأتراك إلى أنهم لا يرون أن الصورة ستختلف لو أتى أوباما أو تولى ماكين. الأمر لديهم سيان والأمل عندهم في السياسة الأميركية محدود. ولديهم كل الحق. فبعد نصف قرن من التجديد المتكرر للأمل أصبح التفكير العربي الشعبي أكثر تواضعاً في توقعاته من الولاياتالمتحدة. العلامة الثانية: أن مواقف أوباما وماكين تجاه منطقتنا تبقى إلى الآن مواقف مرشحين. ومواقف المرشحين دائماً ما تختلف عن مواقف الرؤساء. فالمرشح لديه حرية أكبر. بإمكانه أن يقول كلاماً كثيراً يرضي به هذا ويقنع به ذاك. فهمه الأول كسب المؤيدين والأنصار. أوباما مثلاً قال كلاماً أزعج اليهود وأسرهم، وأغضب الإيرانيين وأسعدهم. أما الرئيس فمقيد دائماً بضوابط صارمة لا يستطيع تجاوزها. ولهذا سواء نجح ماكين أم وصل أوباما فإن سياسة الولاياتالمتحدة تجاه المنطقة ستبقى محكومة بنفس الأهداف التي وضعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن: ضمان أمن إسرائيل، وتدفق إمدادات النفط، واستقرار النظم الصديقة، واحتواء القوى الدولية المنافسة. كما ستظل تدور في فلك الضوابط المؤسسية الأميركية التي لا تتيح تغييراً جذرياً في التوجه نحو المنطقة من رئيس إلى آخر، ومن بينها التأثير القوي للكونغرس وجماعات الضغط النافذة وأبرزها اللوبي الإسرائيلي وشركات صناعة السلاح ومؤسسات الطاقة العملاقة. العلامة الثالثة: أن مواقف أوباما وماكين من القضايا الخاصة بالمنطقة كانت تتشابه مع بعضها البعض كلما اقترب موعد الانتخابات. صحيح أن كلاً منهما حاول في بداية الحملة الانتخابية تبني مواقف متماسكة تميزه عن الآخر، إلا أنه مع وصول الحملة إلى نهايتها أصبحت مواقفهما أقل تماسكاً لأن الهدف، كما سبق، هو كسب المؤيدين على كل جانب وليس التمسك بمواقف نهائية. ومن يقارن مواقف أوباما بمواقف ماكين تجاه المنطقة يلمس أن ما بينهما من تشابه يزيد على ما بينهما من اختلاف. فبالنسبة للقضية الفلسطينية مثلاً نجد أن أوباما يعتقد أن نجاح التسوية السلمية من شأنه أن يلغي الذريعة التي تعتمد عليها جماعات الإسلام الراديكالي في تهديد المصالح الأميركية في المنطقة. وهو ما يرفضه ماكين. لكن أوباما برغم هذا الاختلاف يؤكد - شأنه شأن ماكين - أنه لا يحق لأحد أن يضغط على إسرائيل أو يجرها إلى السير في عملية التسوية على عكس إرادتها. وحتى في قضية العراق يوجد بين الرجلين قدر من التشابه برغم أن الظاهر على السطح أنهما مختلفان حولها جذرياً. فماكين لا يريد الانسحاب المجدول من العراق ويدعم إقامة قواعد أميركية دائمة على أراضيه. أما أوباما فتعهد بسحب القوات الأميركية من هناك خلال ستة عشر شهراً ورفض فكرة القواعد العسكرية جملةً وتفصيلاً. لكن أوباما مع ذلك تعمد أن يترك باباً خلفياً لبقاء أميركا في العراق بل وانتشارها من جديد لو استدعى الأمر. فقد تعهد بالإبقاء على حجم محدود من القوات الأميركية هناك لمقاومة القاعدة، إلى جانب الاحتفاظ بحق التدخل في العراق لو تبين أن ثمة أعمال إبادة طائفية قد تحدث ولا يمكن وقفها إلا بعودة القوات الأميركية. العلامة الرابعة: سواء جاء ماكين أو تولى أوباما فإن الرئيس الأميركي الجديد لن يتعامل مع قضايا جديدة في المنطقة وإنما مع نفس القضايا التي تعاملت معها كافة الإدارات الأميركية على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. ولا أبالغ لو قلت إن بعض هذه القضايا ظل عالقاً منذ حرب الساحل البربري الأولى التي خاضتها الولاياتالمتحدة ضد تونس وطرابلس والجزائر والمغرب ما بين 1801 و 1805 بحجة الدفاع عن حرية التجارة في البحر المتوسط ضد أعمال القراصنة العرب والمسلمين. لكن على الأقل منذ الرئيس الثالث والثلاثين، هاري ترومان، وحتى الرئيس الثالث والأربعين، جورج بوش، والعلاقات العربية - الأميركية تدور حول قائمة شبه ثابتة من الموضوعات. وكلها قضايا سياسية وثقافية واقتصادية ممتدة ومركبة. من بينها الموقف من إسرائيل، والطاقة، والاستقرار الإقليمي، والإصلاح السياسي. وقد حافظت الولاياتالمتحدة في كل قضية منها على خط استراتيجي ثابت لا يتوقع أن يغيره ماكين أو يبدله أوباما. قد تتغير بعض التفاصيل أو تختلف الوسائل، لكن ستبقى الخطوط العامة كما هي: أمن إسرائيل، وأمن الطاقة، وأمن النظم الحليفة، ومطالبة بالإصلاح السياسي تزداد حيناً وتقل حيناً آخر بحسب ما تسمح به الأحوال وما تقتضيه المصالح. وزاد على هذه القضايا في السنوات الأخيرة مسائل أخرى لا تقل عنها تعقيداً على رأسها الحرب على الإرهاب التي ورطت واشنطن العالم العربي فيها ثماني سنوات، وقذفت بالعراق بسببها إلى حالة من الغموض ستبقى لفترة طويلة قادمة برغم ما يقوله أوباما وماكين عن أن لديهما تصورا واضحا بشأن معالجتها. العلامة الخامسة: أن الولاياتالمتحدة ستظل على الأرجح مع الرئيس الأميركي الجديد وكما كانت مع الرؤساء السابقين قوة مفرقة في الإقليم سواء بين الدول العربية وبعضها أو بين القوى الاجتماعية والسياسية في كثير من بلدانه. ولا ينكر أحد بالطبع أن الدول العربية منقسمة أصلاً على نفسها قبل أن تتدخل أميركا في شؤونها بمدة طويلة. لكن دخول واشنطن بقوة إلى الشرق الأوسط جعل منها أحد المحددات الرئيسية لكثير من السياسات والقرارات بما في ذلك قضايا تمت في بعض الأحيان للسيادة والاستقرار المحلي. والأمثلة عديدة. خذ مثلاً موقف الولاياتالمتحدة من القومية العربية والانقسام الذي أحدثته في العالم العربي حينما دعمت الدول المحافظة ضد الدول التقدمية. أو موضوع الاقتصاد الحر الذي تتبنى واشنطن مهمة نشره عالمياً. فقد كان ولا يزال موضعاً لجدل واسع في البلدان العربية خاصةً بعد أن أفرز أغلبية جماهيرية تخسر بلا توقف وأقلية ثرية تكسب بلا حساب. أو خذ عملية السلام التي ترعاها واشنطن وتسببت في تمزيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وتشتيت المواقف العربية بين مساير للرعاية الأميركية ومعترض عليها. أو الموقف من حزب الله وحماس وإيران والغزو العراقي للكويت والمشاركة في الحرب على الإرهاب ونشر الديمقراطية وقضايا أخرى ساهم السلوك الأميركي للديمقراطيين والجمهوريين على السواء في زيادة الجدل والانقسام العربيين من حولها. العلامة السادسة: أن الرئيس الأميركي الجديد سيبدأ التعامل مع المنطقة العربية والولاياتالمتحدة في لحظة استثنائية. لحظة تختلف عن تلك التي تقلد فيها بيل كلينتون الرئاسة من جورج بوش الأب في 1992. فبيل كلينتون وصل إلى البيت الأبيض وأميركا على قمة النظام الدولي بعد أن حققت انتصاراً حاسماً في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي. أما أوباما أو ماكين فسيتحمل واحداً منهما المسؤولية وأميركا في لحظة ضعف لا تخفى على أي مراقب. ضعف نسبي بالطبع وليس مطلقا، لكن مظاهره تظل بالغة الدلالة. فهناك عدم نجاح في العراق يُقدر بأنه سيكلف الموازنة الأميركية حوالي 7,2 تريليون دولار لو خرجت القوات الأميركية من هناك بعد 16 شهراً كما يقترح أوباما. وهناك أزمة مالية ضاغطة خسر الاقتصاد العالمي بسببها إلى الآن عشرة تريليونات دولار نصفها على أفضل تقدير تحملته الولاياتالمتحدة وحدها. ثم إن هناك تراجعاً ملموساً في المكانة الأخلاقية للولايات المتحدة بسبب حربي أفغانستان والعراق وما صاحبهما من أعمال تعذيب وانتهاكات لحقوق الإنسان، إلى جانب الصعود السريع لروسيا والصين بشكل يؤكد أن زمن القطب الواحد بدأ في الانحسار. وكل هذه المظاهر من الضعف النسبي قد تُغري في منطقتنا قوى الممانعة والمقاومة سواء دولاً أو أحزاباً أو جماعات على مواصلة السير في نهج التشدد والعمل على استنزاف الإدارة الأميركية الجديدة بدلاً من منحها فرصة لالتقاط الأنفاس. العلامة السابعة: يبقى للمفاجآت دوماً دورها في تعميق التشابك الأميركي مع المنطقة. فالسياسة الأميركية للرئيس الجديد لن يحددها النص الذي قرئ منه خلال جولاته الانتخابية ولا الكلام الذي قاله خلال المناظرات، وإنما ستحكمه التطورات الفعلية على الأرض. والمنطقة العربية حبلى دائماً باحتمالات اندلاع أحداث مفاجئة تعقد علاقة المنطقة بأميركا. فماذا سيحدث مع أميركا لو انفجرت مشكلة مفاجئة؟ ماذا لو تجدد الصراع المسلح مثلاً بين فتح وحماس، أو جرت مناوشات بين إسرائيل وحزب الله، أو انفجر عنف طائفي في العراق أو لبنان، أو قررت روسيا لحسابات تخصها زيادة دعمها لطهران، أو وقع عمل إرهابي ضخم ضد المصالح الأميركية؟ فتطورات من هذا القبيل لو وقعت كلها أو بعضها قد تدفع على الأرجح بالإدارة الأميركية الجديدة إلى تبني نفس المواقف التي تبنتها إدارات سابقة، مما يُكرس قواعد السلوك المعتادة بدلاً من البحث عن قواعد جديدة. لهذا كله، فإن الأمل في حدوث تحول في السياسة الأميركية تجاه المنطقة في السنوات الأربع القادمة قد يقف عند تغيير الأدوات بحيث تنزع واشنطن أكثر إلى الدبلوماسية والحوافز بدلاً من العسكرة والعقوبات، وهو أمل يمكن أن يتعزز لو أن باراك أوباما وصل إلى البيت البيض. لكن بصرف النظر عن المرشح الفائز، فإن الأهداف الأميركية والقضايا التي تهمها في المنطقة لن تشهد تحولاً كبيراً مما يرجح أن تكون فرص الاستمرار أكبر من فرص التغيير، وأن تظل القضايا الكبرى المعلقة من عقود على ما هي عليه برغم ما سيبذل من جهد لحلها. عن صحيفة الوطن القطرية 4/11/2008