ابتلي البشر بالعداوة المتأصلة مع الشيطان, ثم مع أنفسهم, ليست هي مع الشيطان غريبة؛ فقد طلب الله منه ومن الملائكة أن يسجدوا لآدم؛ فاستكبر, ورأى نفسه أعلى من البشر, وتمرد... فلعنه الله؛ فأراد أن يغوي بني آدم جميعا, إلا المخلَصين, حسدا منه وحقدا وانتقاما.
أما العداوة بين بني الإنسان, فمنشأها التنافس على متاع الدنيا ومكتسباتها؛ ما يولد التحاسد والتباغض, والكيد, ويرشح لمزيد من التطاحن والنزاع...
أما الخلاف الناشىء عن اختلاف الدين والفكر؛ فلا ينبغي له أن يوجد بين المختلفين العداوات الشخصية, فالمسلم, مثلا, وإن اختلف مع غير المسلم فيما يراه الحق من المعتقد والعبادة, فإن ذلك لا يدفعه إلى أن يزدريه, أو ينتقص من إنسانيته, وهو حين يخوض معه نقاشا فكريا لا يهدف إلا إلى استمالته إلى ما يراه الخير له, ولا يحمله على رأيه, ولكنه يجتهد في بيان الحجج, وهي الكفيلة, إن رآها الآخر كذلك أن تجري في فكره التغيير.
ولكنك اليوم واجد بين أتباع الدين الواحد العداوات والبغضاء, حتى صار بأسنا بيننا شديدا, نكره أنفسنا إلى حد التجرؤ على إزهاق الأرواح, واستباحة الدماء, أو حتى الولاء للعدو ضد أبناء أمته وبلده!!!
وهذا يحدث في فلسطين؛ ما جرأ الاحتلال على الإمعان في الحصار والتجويع والاستفراد بغزة, فأضحت وطن المعاناة, ومثواها.
لا يخفى أن أهل فلسطين, فكريا وثقافيا ووجدانيا لا يختلفون جوهريا عن سائر العرب؛ فلا مسوغ لتصويرهم بصورة الشاذ النافر عن العرف العربي, وأخلاق العرب, لكن الذي يميزهم هذا الخضوع الطويل لاحتلال لا يماثله في التاريخ احتلال في النوع, أو في الظروف.
لقد طال هذا الاحتلال حتى أصاب الناس بالضيق الشديد والإحباط على المستوى العام, والخاص, وقد قاوم أهل فلسطين, دون هوادة, ولكن الاتجاه البياني يسير- ظاهريا على الأقل في غير صالحنا؛ لأسباب ليس هذا مكان الإفاضة فيها. وغني عن البيان شأن البرامج السياسية المتناقضة, وأثرها في تباعد الجهود, بل تصادمها, ثم فشلها.
لكن هل يحق للعرب الرسميين ومن شايعهم أن يستخدموا ذلك مسوغا للقعود, والسلبية؟! فكما لا يقبل من أهل فلسطين أن يستخدموا الاحتلال شماعة للسلبيات, فكذلك لا يقبل من العرب أن يستخدموا الانقسام والعداوة مسوغا للتنصل من مسؤولياتهم, ومن باب أولى أنه لا يصح من السلطة أن تجعل من خلافها السياسي مع حماس مسوغا للتشاغل عن غزة, أو الاكتفاء ببعض المواقف اللفظية, فيما هي تسير في خط مستقل, لا يتأثر بما يجري في غزة.
نعم,فقد ابتلينا بالكراهية التي تعمي وتصم, تغذيها تصرفات خاطئة من الطرفين, على تفاوت, فلم نسرف في الكراهية؟! إن مثل تلك الصفة لا ضمان في حصرها في المجال السياسي, فلا حدود لها؛ إذ تمتد إلى النسيج الاجتماعي, والأسري... فعلى الصعيد الاجتماعي لا نعدم مؤشرات على ارتفاع وتائر العداوات, ففي كثير من الحالات لا تلبث شرارة أن تبرق حتى تتطور إلى أقصى المدى, قافزة على مراحل كثيرة من التطور الطبيعي في الخلافات. يستنفر كل طرف طاقاته, ويستفرغ وسائله؛ لتحطيم الخصم تماما.
فلا بد من ضبط العداوة؛ بأن لا نسمح لها بأن تفقدنا السيطرة...فإذا لم يكن بد من الكراهية؛ فهل من سبيل إلى ترشيدها؟! ففي حالات العدواة يوصي النبي- عليه الصلاة والسلام- بعدم المبالغة في البغض" وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما" . وهنا يتساءل الكثيرون: كيف يتمادى كل طرف من طرفي النزاع في الشعب الفلسطيني في وصم الطرف الآخر بأقذع الأوصاف, حتى الشيطنة, ثم تراه في اليوم التالي يجالسه, ويحاوره!!
لا يتوقع أحد أن نشفى من النزاعات, ولكن شكل النزاع, وكيفية إدارته يعكس المستوى الحضاري الذي وصل إليه الشعب. وقد ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن من علامات المنافق أنه إذا خاصم فجر. حتى في الجاهلية كان الناس إذا تحاربوا تبقى بينهم أخلاق يرعونها, وأعرافا يقفون عندها.