الآن تستدعون عرفات ؟ محمد فاضل على مدى الأسبوع المنصرم، قرأت مقالات عديدة في الصحافة العربية تستذكر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على نحو بدا غير مألوف، لقد تم استدعاء عرفات في الذكرى الثالثة لرحيله لكن بما يتجاوز مجرد التوثيق.
تبدو المقالات الجديدة عن عرفات وكأنها تعيد اكتشاف الرجل من جديد وتنطوي على دوافع اقرب لإعادة الاعتبار إليه. فعرفات الذي لا يذكر منذ وفاته إلا باستدعاء صورته الأخيرة محاصرا في المقاطعة ومتوفيا مع همس متواتر بأنه مات مسموما، يبدو بالنسبة للكثيرين كمن يحتاج إلى رد اعتبار، لكن من الواضح أن دوافع إعادة الاعتبار تتم لأنه خلف وراءه مشاعر ذنب لدى الكثيرين.
لماذا يستدعى عرفات الآن؟ فلسطينيا، يستدعى عرفات على أكثر من وجه. فهو لحركة (فتح) تذكير ضروري لاستعادة بعض عناصر القوة التي كان يمثلها عرفات وشخصيته الطاغية لأنه كان القائد الفلسطيني الوحيد الذي يمثل مرجع القوة في الساحة الفلسطينية أن على مستوى قوة قيادته فلسطينيا أو قوة موقفه أمام الإسرائيليين.
أما بعض قادة (حماس) من الذين راحوا يتحدثون بصوت عال عن موت عرفات مسموما، فان هذا يبدو رسالة تذكير للرئيس محمود عباس (ابومازن) بسلفه إظهاراً لفارق مفترض لدى قادة حماس بين الاثنين. لكن الرسالة ذات وجهين، فهي بوضوحها في الإشارة إلى النهاية المأساوية لياسر عرفات إنما تريد الإشارة إلى خطأ عرفات في التفاوض مع إسرائيل من وجهة نظر حماس.
لكن استدعاء عرفات بمثل هذه الكثافة الآن (التي ستتصاعد في المستقبل القريب) إنما يأتي ليقدم نوعا من محاولة تلمس مخرج من الحالة الفلسطينية الراهنة، جواب على الانقسام وحالة الاحتراب التي أفضت إلى لحظة ضعف تاريخية فلسطينية غير مسبوقة. يستدعى عرفات الآن لان مرحلته تمثل نقيضا لما يجري وان بحدود معينة.
ففي ظل وجود عرفات رئيسا للفلسطينيين يستمد زعامته من تاريخ طويل من المعارك والنضال من المنافي إلى الداخل الفلسطيني، لم يكن الاحتراب الأهلي الفلسطيني بمثل هذه الخطورة. وكان قادة حماس رغم خلافهم معه يدركون كل ما يمثله الرجل،
وفي احد أيام العام 1995، تعرض لإساءات من قبل بعض أنصار حماس في احد مساجد غزة، لكن ما أن خرج إلا ولحق به قادة حماس في منزله للاعتذار معلنين انه رئيس فلسطين ولا يجوز أن يتعرض لأي إساءة إلى مقامه.
لقد كان عرفات قائدا استثنائيا على نحو فريد، وفرادته تجمع من بين ما تجمع انه كان قادرا على احتواء الوضع بكل ما فيه من مساوئ ومحاسن أياً كانت المساوئ والمحاسن. في حالته كانت المساوئ تبدو كبيرة ومجسمة وشاخصة ومضخمة أيضاً مقابل محاسن غير ملموسة لكنها حاسمة: الإصرار على مسار تاريخي سعيا نحو دولة فلسطينية.
لكن أليست محاسن الثورات حلما في الأذهان؟ أليس التحرر حلما يستلزم القتال من اجله بالبنادق والمفاوضات؟ إلا تبدأ مؤسسات الدولة من مؤسسات الثورة؟ إلا يبنى الاقتصاد من التدابير المعيشية والاقتصادية الصغيرة التي تبادر بها الثورات؟
لكننا هنا لسنا أمام مؤسسات صغيرة أو تدابير معيشية طارئة، نحن أمام إطار جامع للهوية الفلسطينية اسمه منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات اقتصادية واجتماعية وعلمية وثقافية لا حصر لها، أثبتت شيئا من الأعجوبة عندما تحولت بسهولة فائقة إلى وزارات فور قيام السلطة الفلسطينية.
المأساة في هذا الاستدعاء المكثف لعرفات في ذكراه، انه يجري في اتجاه تنميطه في صورة الرجل المتمسك بالثوابت. وهذا يتم بتهافت شديد لأنه أصبح مقولة موجهة للرئيس ابومازن في الصراع الدائر الآن بين فتح وحماس.
فتنميط عرفات والتشديد على صورة الشهيد الذي رحل دون أن يتخلى عن الثوابت، تبدو اقرب للتعريض بابومازن بأنه مفرط في الثوابت. لكن هذا التهافت في الهجوم على ابومازن، ليس سوى تكرار لما قام به نفس هؤلاء المتهافتين مع عرفات نفسه.
لقد كان عرفات بالنسبة لهؤلاء الفلسطينيين ولغيرهم من العرب في حياته مفرطا في الثوابت كلما جلس مع قيادي إسرائيلي أو أميركي، وبالنسبة للإسرائيليين «راعيا للإرهاب» وليس شريكا لصنع السلام، وللأميركيين «لا يبذل جهودا كافية» لمحاربة الإرهاب.
ولم يستوقف هذا أحدا من خصومه الفلسطينيين والعرب لكي يفكر: «كيف يجتمع كل هؤلاء في موقف واحد مناهض لعرفات؟». خصومه الفلسطينيون والإسرائيليون والأميركيون في آن واحد؟.
لقد جاء الجواب متأخرا مع الاجتياح الإسرائيلي لجنين عام 2002 وتاليا حصار عرفات، لكن لم يتوقف احد من خصومه الفلسطينيين سواء حماس أو الجهاد أو الفصائل الأخرى لكي يقرأ الموقف جيدا بكل ما يطرحه. ما جرى ببساطة هو أن الرجل ترك لكي يواجه مصيره.
لم يدفع اجتياح جنين وما تلاه إلى أي نوع من المراجعة لدى حماس وهي ترى أن من تتهمه بالتفريط بات رأسه مطلوبا وهو الرئيس الفلسطيني، ربما فكروا في كل الاحتمالات إلا واحداً: أن يقفوا مع الرجل.
لقد كان الوقوف مع عرفات ممكنا على أكثر من وجه: حكومة وحدة وطنية، مشاركة في أجهزة السلطة، تنسيق سياسي عال بالنسبة للعمليات العسكرية، بناء مؤسسات الدولة، التركيز على البنية التحتية والاقتصاد.
لكن الحكومة التي رفضت حماس المشاركة فيها مع عرفات وكل هذه الخيارات لم تخطر على بال قادة حماس إلا بعد أن تلقوا ضربات قاصمة في اغتيال الشيخ احمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي.
وباتوا يكررون مع ابومازن ما فعلوه مع عرفات: «مفرط في الثوابت». ومثلهم الآن يستدعي العرب عرفات على النحو الذي لا يجعل من ذكراه أكثر من مقولة في صراع داخلي بتهافت عز نظيره.
هكذا يبرهن الفلسطينيون والعرب من جديد، كيف أنهم مستعدون لتضييع كل إمكانيات الذكاء العملي من أجل الايديولوجيا والشعار. وكيف أنهم لم يحسنوا قراءة الوضع بعد اختراق أوسلو واساؤوا لرجل باتوا يستدعونه الآن ايقونة للصلابة والتمسك بالثوابت. عن صحيفة البيان الاماراتية 18/11/2007