تحدي التغيير الاقتصادي في الانتخابات الأمريكية د.طه عبدالعليم أعتقد أن التحدي الأهم أمام من ينجح في انتخابات الرئاسة الأمريكية, بعد غد, هو قيادة عملية التغيير الإقتصادي في الولاياتالمتحدةالأمريكية, بالتحول عن أساليب إدارة الاقتصاد الأمريكي بوصفة' الأصولية الرأسمالية'. أقصد تحديدا, التراجع عن إعلاء مبدأ' دعه يعمل' بتقديس السوق وإن سادته فوضي الجشع, وإطلاق حرية الرأسمالي وإن أهدر مسئوليته الإجتماعية, وتركز الثروة بمحاباة الأغنياء وإن أهدرت قيم الكفاءة والعدالة, من جانب, وتحريم تدخل الدولة في الإقتصاد عبر ملكية المؤسسات الإقتصادية, أو حتي بمجرد الرقابة والتنظيم والمساءلة والمحاسبة, إضافة إلي إنكار عدالة توزيع الدخل القومي الذي شاركت الأمة في إنتاجه, من جانب آخر! والواقع أن قرارات' التأميم الرأسمالي للبنوك' و'تدخل الدولة للتنظيم' و'مراعاة محدودي الدخل', مباديء فرضها الديموقراطيون علي الجمهوريين قبل شهر من الانتخابات الرئاسية, وهي أمور صارت من المحرمات منذ صعود وهم' الإقتصاد الحر' مجددا خلال ربع القرن الماضي! ولم يكن ثمة خيار آخر أمام الإدارة الجمهورية غير قبول' تعديل خطة الإنقاذ', لمواجهة تداعيات أزمة مالية وتهديدات ركود إقتصادي لم تعرفهما أمريكا منذ الكساد العظيم قبل نحو ثمانين عاما, وفاقمت أسبابهما إدارة بوش الأشد يمينية في- الإقتصاد وغيره- طوال التاريخ الأمريكي, كما يجزم باحثون أمريكيون! وقد عرفت الولاياتالمتحدة تدخل الدولة لمواجهة كوارث إخفاق' السوق الحرة' منذ' ثورة كينز الفكرية', ونفذت برامج اقتصادية واجتماعية حكومية, ضخمة وشاملة, في سياق' النيو ديل' في أعقاب أزمة الثلاثينيات. ولم تتردد الدولة الأمريكية في اتخاذ قرارات التأميم خلال الحرب العالمية الأولي ثم خلال الحرب الكورية في بداية الخمسينيات دعما للمجهود الحربي. كما تبنت الدولة الأمريكية, في أعقاب الحرب الثانية وفي مواجهة تحديات الحرب الباردة, قيم دولة الرفاهية والمجتمع العظيم وعدالة توزيع الدخل في ستينيات القرن الماضي, بل وقامت الدولة بالتدخل الأخطر' لضبط الأجور والأسعار' في عهد نيكسون في السبعينيات! وعلي الرئيس الأمريكي المنتخب مواجهة تحدي صياغة وتنفيذ رؤية استراتيجية لمستقبل الإقتصاد والمجتمع والدولة والثقافة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. والأمر كما يقول بول كوجمان في كتابه' ضمير ليبرالي', وهو الاقتصادي الحائز علي جائزة نوبل هذا العام:' إن جيلي قد نشأ في أمة تتمتع بقيم ديموقراطية راسخة ورفاهية عامة واسعة النطاق. لكن كلا من هذه القيم وتلك الرفاهية قد غاب عن الذاكرة وانزوي! وبمقدورنا أن نعكس هذا الاتجاه! إن الإصلاح السياسي والإقتصادي قد حول أمريكا' الأوليجاركية'( أي التي تحكمها وتملكها أقلية), حيث تفاقم عدم المساواة والتعصب الأعمي والفساد إلي مجتمع ما بعد الحرب( العالمية الثانية) غير المثالي, ولكن الأفضل كثيرا. والتحدي الآن هو القيام مجددا بما قام به' النيو ديل': خلق المؤسسات التي تعزز وتحمي مجتمعا أفضل'! ومهما يكن تأثير' اللون' علي نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية, فإن فوز باراك أوباما بترشيح الحزب الديموقراطي يجسد رقيا وتقدما لا يخفي في ثقافة المجتمع الأمريكي. أعني التحرر من الميراث المشين والبغيض للعبودية والعنصرية والتمييز, الذي كابدت ويلاته أجيال من الأمريكيين من أصل أفريقي, حتي لو اقتصر هذا' التحرر' علي غالبية التيار الديموقراطي والليبرالي, وأقلية التيار الجمهوري والمحافظ. وقد تمايزت بعض مواقف ماكين بالكونجرس عن حزبه اليميني ورفض تقسيم العراق, لكن حملته لم تخل من روح كراهية' العرب والمسلمين' وتأثير' المسيحيين الصهاينة', ولن يتحرر رئيسا من ضغوط' المحافظين الجدد' بتوجهاتهم الإمبراطورية ومن سطوة مصالح' المجمع الصناعي العسكري' العدوانية! لكن الخلافات بين أوباما وماكين في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية لن تكون محددة لنتيجة الإنتخابات, ببساطة لأنها ليست جوهرية, حتي في مسألة العراق! ورغم تأييد كلا المرشحين والحزبين الديموقراطي والجمهوري للخطة المعدلة للإنقاذ المالي وما ارتبط بها من إجراءات تخالف' العقيدة القويمة' للإقتصاد الحر, يبقي الفارق الأهم بينهما, وربما العمل المحدد لنتيجة إنتخابات الرئاسة المرتقبة, هو التمايز الفعلي والكبير بين قدرات وتوجهات المرشحين, وحزبيهما ومساعديهما, لمصلحة أوباما والديموقراطيين, في مواجهة تحدي التغيير الإقتصادي وما يفرضه من تغيير اجتماعي وسياسي وثقافي! وهنا أكتفي بالإشارة إلي خمس حقائق: أولا: أن المحللين من أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين يرون أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد, تعد أهم عامل في التأثير علي فرص المرشحين في السباق الرئاسي إلي البيت الأبيض. فيقول ستيفن روزينستون أن' العلاقة بين وضع الاقتصاد وقرار الناخبين معروفة وموثقة.' وإذا كان بوش الأب قد خسر انتخابات1992 لأسباب اقتصادية, فإن الأمر نفسه حدث مع كارتر في انتخابات.1980 ويقول جيف ديسيمون بصدد إعادة انتخاب بوش الإبن في عام2004, إن' الاقتصاد كان يتحسن, وهذا هو السبب وراء إعادة انتخابه, وليست الحروب التي شنها أو مكافحته للإرهاب'. وتظهر استطلاعات الرأي أن أزمة' وول ستريت' الأخيرة تفجرت في وقت يحتل فيه الاقتصاد المرتبة الأولي بين أولويات الناخبين. وثانيا: أن المسح السنوي الذي أجرته جمعية علم النفس الأمريكية بين أبريل وسبتمبر من هذا العام أظهر' أن تدهور الاقتصاد القومي يستنزف المواطنين بدنيا ونفسيا'. وتقول الرئيسة التنفيذية للجمعية أن القلق من الأوضاع المالية والاقتصادية قفز ليحتل المرتبة الأولي,' وخلال خبرتي الممتدة علي مدي30 عاما لم يكن هذا في سلم الأولويات أو علي رأس قائمة الشكاوي!' ومنذ بدء الاضطرابات الاقتصادية الأخيرة ارتفعت شعبية أوباما. ووفقا لاستطلاعات الرأي بلغت نسبة مؤيديه بين من يعتبرون الاقتصاد قضيتهم الأولي نحو ثلثي الأمريكيين, وتحمل أغلبية الناخبين الجمهوريين مسئولية الأزمة المالية والاقتصادية, وتري أن أوباما أقدر علي مواجهتها, كما تؤيد تدخل الحكومة لمواجهة الأزمة المالية. وفي المقابل, تعتبر الأغلبية ماكين استمرارا لسياسات بوش' غير الشعبية', وتمر الولايات التي يأمل بالفوز فيها بأسوأ أوضاع اقتصادية في أمريكا! وثالثا: أن مواقف الحزبين الديموقراطي والجمهوري قد تباينت بشأن تحديد المسئول عن الأزمة المالية وسبل علاجها. وباستقامة سياسية محمودة أعلن النائب الديموقراطي بارني فرانك, كبير المفاوضين الديمقراطيين بشأن خطة الإنقاذ, إن' القطاع الخاص هو الذي وضعنا في هذا المأزق, وبات الآن علي الحكومة أن تخرجنا منه.' وحمل زعيم الأغلبية الديمقراطية إدارة الرئيس بوش مسئولية الأزمة بسبب إتباعها سياسات اقتصادية لا تعرف ضوابط أو رقابة. وطلب الديمقراطيون إجراء تعديلات علي خطة البيت الأبيض لإنقاذ الاقتصاد قبل الموافقة عليها, بينها' ملكية الدولة لبعض المؤسسات المالية التي ستنقذها'. وقالت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إن الرسالة التي توجهها خطة الإنقاذ إلي العاملين في وول ستريت هي' أن الحفل قد انتهي'! في إشارة إلي تراخي الرقابة علي عمل المؤسسات المالية. ورابعا: أن الرئيس الأمريكي الجديد, بصرف النظر عن هويته, سيواجه أزمات مالية كبيرة, وأزمة ركود طويل ومؤلم يري البعض أنه قد بدأ فعلا! وقد وصف ماكين أوباما بأنه مرشح' يؤمن بإعادة توزيع الثروة, ولا يؤمن بالسياسات التي تدفع اقتصادنا نحو النمو وتخلق الوظائف', وكرر أسطوانة' اقتصاد العرض', التي زعمت بأن خفض الضرائب علي كبار الرأسماليين ودعم تركز الثروة لديهم يحفز الاستثمار ويوفر فرص العمل ويخدم الفقراء, وهي الإسطوانة التي شرختها سياسات بوش, وحطمتها الأزمة الراهنة! وكما أوضحت حملة أوباما فإنه لايقول للأمريكيين سوي أنهم يستطيعون اختيار: اقتصاد يكافئ علي العمل, ويخلق فرص عمل جديدة, ويغذي الرخاء والازدهار, والاستثمار في الرعاية الصحية لعائلاتنا, والتعليم لأولادنا, والطاقة البديلة لمستقبلنا, والأمل بدلا من الخوف, والوحدة بدلا من الانقسام, وبشائر التغيير بدلا من الوضع الراهن.' وخامسا: أن ماكين قد اتهم أوباما- وبحق- بأنه سيطبق رؤي حزبه الديموقراطي, التي أوجزنا ملامحها! وأما أوباما فقد جدد اتهامه لإدارة بوش بالمسئولية عن الأزمة' بتركها أبواب البيت الأبيض مفتوحة أمام جماعات الضغط وأصحاب المصالح الخاصة ليتلاعبوا بالاقتصاد, فجعلوه في خدمتهم بدلا من أن يكون في خدمة الشعب'_!_ وعزا الأزمة إلي' الفلسفة الاقتصادية التي ينتمي إليها' خصمه الجمهوري, والتي تري أن كل أشكال رقابة الدولة, حتي المسلم بها,' غير ضرورية', وتدفع بالمسئولين إلي' انتظار تحول المصاعب المالية إلي كوارث'! وحث أوباما علي' تحديث النظم والقوانين بما يكفل حماية المستثمرين والمستهلكين علي حد سواء. لكن أوباما لم يطرح بعد رؤيته الاستراتيجية للتغيير في أمريكا, ربما بدافع الحذر السياسي عشية الانتخابات أو بسبب فضيلة تكوينه العلمي المتأني, بينما يتوقف عليها وعلي تفاصيلها ومواجهة تحدياتها مصير دعوته إلي التغيير! عن صحيفة الاهرام المصرية 2/11/2008