في البدء كان منطق الساحة فؤاد المقدم ربما يكون من تحصيل الحاصل ان هذا الذي يجري اليوم بشأن الاستحقاق الرئاسي يؤشر الى بلوغ الصراع بين فريقي الانقسام اللبناني ذروة التأزم الذي يسبق الانفجار، هذا الصراع الذي يدأب الفريقان على تصويره لقواعدهما ولسائر اللبنانيين على انه صراع خيارات داخلية وإقليمية باتت أصيلة في تباينها حول صيغة لبنان ومصالحه الوطنية في حاضره والمستقبل، مثلما يطالبان بانتظار استتباب نتائج الصراع في مصلحة أحد هذه الخيارات، وإذا كنا لم ننقطع طوال الأشهر الأخيرة عن رصد سياسة الفريقين وهي تتوالى فصولاً، فإن المنعطف اللبناني الراهن يقضي بإجراء جردة حساب إجمالي لا بديل منها في سبيل استكشاف بعض معالم المستقبل القريب على الأقل، وبعيداً عن منطقي الموالاة والمعارضة نرى في مجرى الأحداث المتوالية ارتداداً بالأزمة اللبنانية إلى ما قبل تسوية الطائف، وهو ارتداد يرتدي وجهين مترابطين: استنزاف الملف اللبناني، وصولاً الى الانهيار الذي بدأ يطول مقومات وجود البلد من دون استثناء أولا، والامعان في تحويل لبنان الى مجرد ساحة لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية ثانياً. ان أي مراجعة لتطورات الأزمة المفتوحة تضعنا أمام الحديث عن علل السياسات التي يعتمدها فريقا الموالاة والمعارضة في النهج، وعن أعطابها في الأداء، في النهج تستوقفنا علتان حقيقتان: الحقيقة الأولى: إن وقائع المواجهة الدائرة تشير إلى اننا لسنا أمام برنامجين ومشروعين سياسيين، يشكل أحدهما بديلاً للآخر، وتنتظم في إطار كل منهما رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية في السياسة الداخلية، متسقة ومقرونة مع رؤية لموقع لبنان الإقليمي وعلاقاته الدولية، ان جوهر الأزمة كيفما جرى تقليبها، ان من حيث سياقها السياسي، او من حيث الطبيعة الطائفية لقواها، يدور في الواقع وفي الدرجة الأولى على السلطة، على تركيبتها ونوع التوازن الطائفي ضمنها، ولا يكفي لطمس هذه الواقعة نوع الشعارات والخطاب السياسي لفريقي الموالاة والمعارضة، فالجميع تعودوا خلال الأزمة اللبنانية المستمر قراءة الشعارات السياسية المرفوعة على ضوء طبيعة القوى التي ترفعها لا بالاستناد الى منطق الشعارات نفسها، كما لا ينتقص من صحة هذا الحكم واقع توزع الفريقين على خيارين اقليميين متباينين ومن نافل القول هنا ان الخيارات الاقليمية غالباً ما كانت مرآة للصراع على السلطة، وهي معادلة ليست جديدة على واقع الحال اللبناني، منذ نشأة الكيان، إن لم نقل قبله. والى ذلك يضاف ان الزاوية التي لا بد ان ننطلق منها في محاكمة مشاريع الحلول المطروحة خلال الأزمة الراهنة تتعلق بالدرجة الأولى بنوع الدينامية التي تطلقها هذا المشاريع، هنا، لا مجال لكثير من التبسط في تقديم الوقائع التي تشير الى واقع الانقسام العمودي، والفرز الطائفي والمذهبي الذي يطلقهما الصراع المفتوح حول نوع التوازن الطائفي في إطار معادلة السلطة، يكفي ان نشير الى سعي كل من افرقاء الموالاة والمعارضة الى تكريس شرعيته في اطار المعادلة العامة انطلاقاً من مداره الطائفي والمذهبي الخاص، وان يتمحور الصراع بين أقطاب المعادلة اللبنانية حول سندات ملكية كل منهم لطائفته ووصايته عليها من ناحية، وحصته في إطار معادلة السلطة من ناحية ثانية. ان هذا المسار هو بالتعريف مسار تأبيد للصراع لا مشروع إنتاج لدينامية الحل المنشود وهو لا ينتج أكثر من مشاريع تقاتل دوري عبثي بات معه قانون الصراع المفتوح على حصص مفترضة للمذاهب قانوناً طاغياً في العلاقة بين الطوائف والمذاهب اللبنانية. الحقيقة الثانية: هي حقيقة مراوحة الأزمة الراهنة تحت سقف موقف انتظاري عقيم، من اللافت والمدهش أن يكون الفريقان يعتبرانه موقفاً وازناً في مصلحة توطيد دعائم خياراتهما الداخلية والإقليمية، بصرف النظر عن الأثمان الباهظة التي يدفعها الشعب اللبناني، لقد ارتأى كل من الفريقين أنه يمتلك الأوراق الكافية للاستمرار في المواجهة، وان مصلحته تكمن في تقطيع الوقت اللبناني الصعب بلعبة فتح الملفات وإقفالها، والإمعان في إطلاق التبسيطات العاجزة عن مقاربة جادة لملفات الأزمة المفتوحة، وعن التوصل الى تسوية قابلة للحياة. والحقيقة ان ما نشير اليه هنا من علل في نهج كلا الفريقين يظهر على نحو اكثر وضوحا حين ننتقل الى الحديث عن الأداء العملي، هناك من لا يكف عن استدراج الوصاية الدولية على لبنان تحت زعم لبننة ما للموقع اللبناني وإنقاذ البلد من الخراب، والسعي إلى تحويله الى جنة خدمات وأعمال في كنف الحماية الأميركية. في المقابل هناك من يعتبر ان المعارك التي يخوضها في الداخل، والسعي الى تحسين موقعه الطائفي في معادلة السلطة، هما الشرط الأساسي لاستمرار المعركة مع العدوان الإسرائيلي والهيمنة الأميركية، ويقدم اجتهادات استراتيجية حول ارتباط أزمة لبنان بأزمة المنطقة. طبعاً يبدو الفارق جوهرياً بين الدعوة إلى الالتحاق بالهيمنة الاميركية، وبين الدعوة الى مواجهة هذه الهيمنة ومعها العدوان الاسرائيلي المستمر على لبنان، إلا أن الحصيلة الموضوعية لمسلك هذا الفريق او ذاك، تؤدي الى خوض معارك بديلة بفعل مسلك الفريق الأول، وتقع في دائرة استنزاف لبنان وتهميش قضيته الوطنية بفعل مسلك الفريق الثاني. لقد وصلت «اللبننة» بالبعض الى عدم الاعتراف بشيء اسمه القضية الوطنية اللبنانية، المهددة من جانب اميركا واسرائيل، وانكار وجود مشروع اميركي اسرائيلي يهدف الى السيطرة على المنطقة ومن ضمنها لبنان، وعليه عمد هذا الفريق الى قلب المعركة رأسا على عقب وحولها الى معركة مفتوحة مع حزب الله ومعه المحور الايراني السوري. على الضفة الاخرى، لم تكن المشكلة يوما في تأكيد ارتباط أزمة لبنان بأزمة المنطقة منذ الارتباط القائم موضوعيا في الخطة الاميركية الاسرائيلية، وليست المشكلة بالطبع في خيار المقاومة كخيار واجب وأكيد، المشكلة تكمن بالتحديد في مستويين اثنين: المستوى الأول: في تصنيف لبنان بكونه ساحة من ساحات الصراع الشامل في المنطقة، وليس قضية وطنية لها خصائصها، نشأت وتتحرك في شروط موضوعية مخصوصة بلبنان، وهي خصائص تميزها عن سائر قضايا المنطقة، وعليه فالترابط الموضوعي بين قضية لبنان وقضايا المنطقة ليس مرادفاً للاندماج بين هذه وتلك، والتميز ليس مرادفاً للفصل بين قضايا الصراع الشامل في المنطقة، ان مقياس نجاح المفارقة في تجسيد الترابط الموضوعي بين قضية لبنان الوطنية وقضايا الصراع الشامل في مواجهة الهيمنة الاميركية والعدوان الاسرائيلي يتجلى في مقدار نجاح هذه المقاومة في حشد طاقات الشعب اللبناني في مواجهة العدوان وفي استقلاليتها النسبية، ممارسة وتحالفات، على قاعدة الحفاظ على أولوية المصلحة الوطنية الواجب تأكيدها. المستوى الثاني: اختزال قضية لبنان في جانبها التحريري، وتغييب جانبها الديموقراطي، ليس هذا فحسب بل استبدال هذا الأخير بالانخراط في معادلة الصراع الطائفي والمذهبي، إن تحسين شروط الصراع الأكثر شمولاً ضد الصهيونية والامبريالية لا يمكن ان يكون في أي حال من الأحوال عبر بوابة البحث العقيم في حصص الطوائف مهما كانت الصيغة «عادلة». ان هذا البحث هو الذي يجعل المسائل مقلوبة رأساً على عقب ويؤول الى أضرار سياسية قاتلة تستنزف انتصارات المقاومة وتسهم في تهميش القضية الوطنية اللبنانية. في امتداد الصراع المفتوح بين الموالاة والمعارضة يرتسم خط الانقسام بين النظرتين «الاستراتيجية» و«المحلية» فوق خط الانقسام الطائفي والمذهبي، ويجري الحوار المتخاصم حول الوفاق الداخلي، ويمكن القول إن مشاريع الحوار التي تقدمها حركة الأطراف الأساسية في كلا الفريقين تتساوى في عجزها عن إنتاج دينامية وفاق حقيقية، بل وفي كونها موضوعياً أنتجت وما تزال دينامية تجديد للصراع، وإمعان في مسار التفكك والانهيار، إنها بهذا المعنى، والى هذا الحد او ذاك، ليست قابلة للفرز الى مشاريع وفاقية وأخرى مسؤولة عن تجدد الصراع واستمراره، ولا هي قابلة للفرز بين مشاريع مسؤولة عن دفع لبنان إلى الدوران في وضعية الساحة، وأخرى تسعى الى اخراجه من هذه الوضعية، ولذلك فهي تتشارك في تحويل لبنان الى مجرد ساحة يجري استخدامها «تكتيكياً» في اطار الصراع «الاستراتيجي» الشامل في المنطقة، وليس أدل على ذلك من واقع المراوحة المريرة للأزمة الراهنة، وامتلاك محوري الصراع الإقليمي مفاتيح الأزمة اللبنانية، حلا او تعقيدا. خلاصة القول هنا، ان منطق الساحة وصراع المعادلات الطائفية توأمان سياسيان لا ينفصلان، وجود أحدهما يستدعي وجود الآخر، لا نسجل هذا الحكم من قبيل التزام موقف علماني مبدئي من الطائفية، بل من قبيل القراءة الواقعية لواقع دخول النظام الطائفي اللبناني في طور جديد من أطوار أزمته الدائمة، ودخول البلاد معه في نفق طويل لا يستطيع هذا النظام أن يخرجها منه، اذ كيف نفهم ما يعانيه لبنان اليوم من أزمة وطنية مفتوحة إذا لم نفهمه على انه نتاج الأزمة التاريخية لهذا النظام، وكيف نستطيع ان نرى خلاصاً للبنان عبر استنبات ثنائيات طائفية جديدة يجري بناؤها اليوم تحت عنواني الموالاة والمعارضة، وفوق عوامل داخلية وإقليمية متحركة تشطب من حسابها وحدة لبنان واستقراره وسلمه الأهلي. لا أفق مرئيا لإقفال ملف الأزمة الراهنة المفتوحة بوجهيها: وجه السيادة الوطنية المهدورة، ووجه الأزمة الداخلية المستمرة العصية على الحل القريب. عن صحيفة السفير اللبنانية 8/11/2007