الانتخابات الامريكية: نبوءة كندي أم كابوس فلوريدا؟ مالك التريكي قبل أربعين سنة فقط تعرض روبرت كندي لانتقادات لاذعة لمجرد أنه قال إن من المحتمل في غضون خمسين سنة أن يُنتخب رجل أسود رئيسا للولايات المتحدة! الآن، وقبل عشر سنوات من الموعد الافتراضي، تستعد الولاياتالمتحدة جديا لاحتمال وصول أول رجل أسود في تاريخها إلى منصب الرئاسة. وهو احتمال لا يقابله العالم إلا بالترحاب، مثلما يبين استطلاع للرأي أجرته أخيرا كبريات الصحف في كندا، والمكسيك، واليابان وأوروبا (حيث تبلغ نسبة التأييد لباراك أوباما في بريطانيا، مثلا، 65 بالمائة). ولا مراء أنه إذا وقع هذا الاحتمال فستكون له دلالة كبرى بالنسبة لتطور المجتمع الأمريكي سياسيا وثقافيا. إذ يجدر التذكر أن حركة الحقوق المدنية حديثة العهد من المنظور التاريخي، وأن العنصرية لا تزال رغم تطور العقليات سرطانا ينخر في المجتمع الأمريكي. ولكن رغم وهن حملة المرشح الجمهوري جورج ماكين، فإن هنالك من لا يزال يستبعد احتمال استعداد أمريكا لتقبل وصول رجل أسود إلى الرئاسة. كما أن المعلقين المحافظين، مثل آن أبلباوم، يغمزون: ولمَ لا يكذّب ماكين الاستطلاعات ويحدث المفاجأة التي أحدثها بوش أمام آل غور عام ألفين؟ إلا أن من اللافت للنظر حقا أن هنالك من المحافظين السود الأمريكيين (وهم فئة قليلة ولكنهم ينتمون إلى النخبة)، مثل الكاتب والمعلق شلبي ستيل، من يعتقد أن أوباما سينهزم، بل ربما يتمنى له الانهزام. فقد أصدر ستيل أوائل هذا العام كتابا بعنوان 'الرجل المكبّل: في أسباب الحماسة لأوباما وأسباب عجزه عن الفوز' يحاجج فيه بأن أوباما لن ينجح في نهاية المطاف في استمالة أغلبية الناخبين الأمريكيين لأنه لا يزال شديد الارتباط إيديولوجيا بسياسات الهوية السوداء ولأنه لم يتخلص من إرث حركة الحقوق المدنية ومن 'الليبرالية السياسية التي هي جزء لا يتجزأ من هويته العرقية'. وهذا بالطبع رأي مثير للجدل باعث على الاستغراب. ذلك أن أهم خصلة تميز بها أوباما في رأي الكثيرين إنما تتمثل في أنه لم يجعل من العرق قضية في هذه الحملة الانتخابية، ولم يقدم نفسه على أنه المرشح الأسود، بل إنه سعى إلى الانعتاق من إسار سياسات الهوية التي تحدد المرء بانتمائه العرقي أو الإثني. كما أن خطابه عن المسألة العرقية يوم 18 آذار (مارس) الماضي في فيلادلفيا قد عُدّ أهم خطاب في هذا الشأن في التاريخ الأمريكي بعد خطاب الرئيس أبراهام لنكولن عام 1860. على أنه لا يمكن فهم موقف ستيل هذا بمعزل عن الاستقطاب الإيديولوجي بشأن قضايا حساسة لعل أهمها هي قضية انتشار الفقر المزمن بين السود. إذ يرى الليبراليون أن للفقر الذي تعاني منه نسبة كبيرة من السود أسبابا مثل العنصرية واللامساواة المتجذرة في صلب النظام الاقتصادي، بينما يرى المحافظون أن أسباب فقر السود تتعلق ب'أمراض ثقافية' (أي بلغة أقل تهذيبا: عيوب عرقية) توارثوها أبا عن جد، وأن هذه الأمراض استفحلت بسبب برامج الرعاية الاجتماعية التي أحقتها الدولة منذ عهد الرئيس جونسون. وليس من عجب أن يكون المحافظون السود مناهضين لأوباما. إذ فضلا عن التباين الإيديولوجي، فإن أوباما قد فاز بأحد مقعديْ ولاية إلنوي في مجلس الشيوخ الفدرالي عام 2004 (عقب ثمانية أعوام أمضاها عضوا في مجلس شيوخ الولاية) بعد انتصاره على خصمه آلن كيز الذي كان من المنظّرين الإيديولوجيين لتيار المحافظين السود ولكنه كان يفتقر إلى الحضور والجاذبية. ولهذا فإن أوباما يعترف في كتابه الذي يمثل بيانه السياسي بين يدي حملته الرئاسية، 'جسارة الأمل: خواطر حول استعادة الحلم الأمريكي'، بأنه كان 'سعيد الحظ إلى حد عجيب' بمواجهته لمثل هذا الخصم، خاصة أنه قد سبق لأوباما أن انهزم عام 2000 عندما خاب مسعاه للفوز بعضوية مجلس النواب الفدرالي. ولكن لعل الأهم من تمنيات المحافظين هي تخوفات الليبراليين في أمريكا، والناس أجمعين خارجها، من ركون حملة أوباما إلى أمان الثقة في الفوز، بحيث يتكرر كابوس عام ألفين عندما منحت فلوريدا الفوز، بأسلوب عالمثالثي غرائبي، لرجل لم يكن يعرف أسماء رئيس وزراء الهند أو رئيسي الباكستان والشيشان. عن صحيفة القدس العربي 26/10/2008