سليم عزوز حتى لا يظن بي احد ظن السوء، أود التأكيد في البداية على انه ليس لي موقف شخصي من السيدة هيلاري كلينتون.
فأنا أنظر إليها على أنها 'زوجة مكسورة الجناح'، بعد أن وقف العالم كله على مغامرات زوجها الرئيس الأسبق.
وهو أمر ولا شك يجرح أنوثتها أمام الخلائق، ولهذا فقد سعدت باختيارها لمنصب وزيرة الخارجية، واعتبرت أن هذا تعويض لها عن خيانة الزوج، الذي كانت سيرته في فترة من الفترات على كل لسان.
ويعد هذا هو الموقف الأول الذي يتعرض له رئيس دولة، من دون أن نسمع أن الرئيس مبارك وجه له نصائحه الخالدة، وهو الذي كان لا يمل من أن يتقدم بالنصائح إلى قادة العالم، ونصائحه للرئيس صدام حسين، معلومة للكافة.
عندما كان تلفزيون الريادة الإعلامية يقطع إرساله ليطل مبارك موجهاً النصح للرئيس العراقي، قبل أن يشارك سيادته بوش الأب في تدمير العراق، كما شارك بوش الابن في القضاء على ما تبقى منه.
مبارك كان يقدمه إعلامه على انه حكيم العالم، ومعلم الأجيال، ويُذكر للصحافي المختار في عهده سمير رجب أن قال إن رؤساء العالم يأتون إلى القاهرة لكي يتعلموا السياسة من الرئيس مبارك.. ومن يومها وأنا أعلم السر وراء الجهل السياسي الذي يتمتع به الرؤساء.
أعود فأقول انه لا يوجد موقف شخصي لي من سالفة الذكر هيلاري كلينتون، بيد أنها عندما جاءت إلى القاهرة يوم الأربعاء الماضي، وزارت 'ميدان التحرير' وتصرفت على أنها مفجرة 'الثورة' ذكرتني بالذي مضى.
في يوم الغضب 25 يناير الماضي، وبعد كر وفر، شعرت باطمئنان على الثورة، وذهبت أبحث عن أحد المقاهي لكي أستريح فيه قليلاً، ولي فيه مآرب أخرى، فأنا من 'ملوك الشيشة' في المنطقة، شأن 'المعلمين'، وتجار الخضار في افلام الأبيض والأسود.
في المقهى شاهدت قناة 'الجزيرة'، التي كانت في هذا اليوم مهتمة ب'خناقة لبنانية' بين الفصائل، وتعاملت مع ما يجري في القاهرة باعتباره خبرا هامشياً، قبل أن تتحول إلى 'صوت الثورة' ويتعامل معها النظام على أنها العدو الأكبر والشيطان الرجيم.
وكانت من مهام التلفزيون المصري التشهير بها باعتبارها عميلة لإسرائيل وتسعى لإثارة الفتن في القاهرة، لأن النظام المصري يقف لإسرائيل على خط النار.. وهو أمر معلوم لكم يا معشر القراء.
من التعب والإرهاق كنت قد جلست على الكرسي على مراحل، وكنت أظن أنني لن أستطيع الوقوف مرة أخرى في هذه الليلة، وهنا فوجئت بهيلاري كلينتون تقف بشموخها المعهود، وقوامها الممشوق، لتلقي بيانا عن الشأن المصري.
فإذا بي أهب واقفاً وأهرول ناحية جهاز التلفزيون، لا لكي أتمكن من رؤية طلعتها البهية، فهي قد أصبحت من القواعد من النساء، ولكن لكي استمع إلى ما تقول.
الانحياز لمبارك
كانت كلينتون في كلمتها منحازة لنظام مبارك، وقالت إن الحكومة المصرية مستقرة، وبعد ثلاث ساعات من هذا الانحياز، قام النظام بتفريق الاعتصام بالقوة.
ولم تكن المذكورة تصدق وقتها أن رجلهم في مصر سيتهاوى في ظرف سبعة عشر يوماً. وعندما كانوا يعتقدون انه انتهى، كان خطابهم يتغير لصالح الثورة، فإذا تعامل مبارك على انه 'الفك المفترس'، فانهم يعلنون تمسكهم به ويطالبون فقط بإصلاحات.
موقف انتهازي يليق بتاريخ 'البيت الأبيض'، الذي لا ينفع في اليوم الأسود، وليس هذا موضوعنا، فالحاصل أن هيلاري كلينتون كانت بالباع والذراع مع نظام مبارك 'الحليف الاستراتيجي لإسرائيل' .
وعندما تأتي الآن وتتجول في 'ميدان التحرير' كما لو كانت مفجرة الثورة، فإنها هنا تذكرنا بالمتحولين في مصر، من الجنسين، وهم الذين انقبلوا من النقيض إلى النقيض، وصاروا هم لسان الثورة، وكانوا من قبل يشهرون بها، ويقومون بالتشنيع على الثوار.
وقد تحول القائمون على تلفزيون الريادة الإعلامية، على نحو يشير إلى ان عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار، هو من كان يتقدم الصفوف في يوم الغضب وفي جمعة الغضب، وعلى نحو جعل من تامر ابن أبيه هو لسان الثورة التي تنطق بها، بطبيعة الحال بعد ان رحل الرئيس مبارك غير مأسوف عليه.
حتى عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة 'الأهرام' وعضو لجنة السياسات، أصبح من الثائرين الأوائل، وأصبحت مشفقاً على رؤساء تحرير صحف المعارضة.
وهم يدخلون في منافسة مع 'الأهرام'، في التعبير عن الثورة، و'الأهرام' كانت تتحول في الانتخابات، وفي المؤتمر العام للحزب الحاكم، إلى منشور حزبي هابط، وقد تطاولت على الثورة شأنها شأن التلفزيون المصري.
هيلاري بموقفها ذكرتني بالفنانة سماح أنور أم المصريين الجديدة، التي كانت 'زبونة' دائمة على تلفزيونات تخصصت في التشهير بالثورة، ووصل الأمر إلى حد القول ان حفلات للجنس الجماعي منصوبة في 'ميدان التحرير' على مدار الساعة.
كلينتون محظوظة إذا تمت مقارنتها بسماح أنور، فالأخيرة جرت مواجهتها في حوار تلفزيوني أشبه بالمحاكمة، في حين ان وزيرة الخارجية الأمريكية لم تجد من يواجهها بموقفها السابق، وهي تتجول في الميدان، أو من قبل المئة شخص الذين التقت بهم في القاهرة، والذين جلسوا في حضرتها مجلس التلميذ من العقاد.
لقد شاهدت سماح أنور على قناة 'العربية' وهي شبه منهارة، لأنها وقفت هذا الموقف وكانت تظن أن النظام المصري قادر على الصمود، فإذا به يضيع في 'شربة ماء'، وجعل الذين انحازوا له في 'حيص بيص'، وفي وضع لا يسر.
التضليل التلفزيوني
سماح أنور اتهمت التلفزيون بأنه السبب في تضليلها.. كل الفنانات اللاتي هاجمن الثورة، أرجعن خيبتهن الثقيلة إلى تلفزيون الريادة الإعلامية، مع أن هذا عذر أقبح من ذنب، فلا يمكن لعاقل رشيد أن يبني موقفه على ما يذاع في هذا التلفزيون.
وقد كان عددنا قد تجاوز الثلاثة ملايين مواطن، بينما كاميرا سيادته مصوبة على ميدان آخر، ويقول المراسلون الميدانيون له أن عدد الحاضرين لا يتجاوز المئات، وان 'الجزيرة' تكذب، وكأنهم يتنفسون من تحت الماء.
عبد اللطيف المناوي صاحب الأمر والنهي في تلفزيون البلاد لقربه من الزعيم الخالد جمال مبارك، تصرف على طريقة عساكر الأمن المركزي. وعندما 'هبدني' أحدهم بعصاه فوق رأسي، طلب مني البعض ألا آخذه بجريرته فهو 'عبد المأمور'.
المناوي قال إن تعليمات صدرت له بتوجيه الكاميرا الى زوايا شبه خالية من البشر، ولا ندري لماذا انصاع ولم يكن أسيراً في غوانتانامو، لكنه يقول أي كلام.
ومن قبل قال إن السبب في هذا راجع إلى أن الشباب منع كاميرات التلفزيون من دخول الميدان.. فهل كان المنع فعلا أم رد فعل على التضليل الإعلامي؟
سماح أنور حاولت أن تنكر التهمة، لكن المذيع استأذنها في عرض تسجيل لكلامها فرفضت بشدة، واختبأت وراء الجهل، وقالت: لست محمد حسنين هيكل 'فأنا لا اعرف ماذا كان يجري في ميدان التحرير، والتلفزيون المصري ضللني'، وقالت انها كانت تتركه وعندما تذهب إلى 'الجزيرة' تغادرها بسرعة، فهي وعلى حد قولها 'مقاطعة الجزيرة'.
وهذا ولا شك خسارة عظيمة للفضائية القطرية أن تقاطعها سماح التي أرجعت سبب المقاطعة إلى أن 'أي أحد يشتم بلدي أقاطعه'.. يعجبني في سماح أنور هذه المشاعر الوطنية الجياشة.
وقد سألها المذيع: 'أي احد يشتم بلدك ولا نظام بلدك'، فقالت ان الجزيرة تشتم مصر. و'قلبت سماح علينا المواجع' بما جرى في السودان.
لا يزال هناك من يتمسك بهذا الفيلم الهابط، الذي هو من إنتاج النظام البائد وإعلامه، عندما تبنى مبارك ونجلاه أداء الفريق المصري في مباريات كأس العالم، كما لو كانوا مدربين للفريق.
وما دام النصر يحسب للرئيس وبنيه، فان الخسارة تحسب عليهم، لذا لا بد من البحث عن شماعة لتعليق الهزيمة عليها.
الفنان أحمد عبد الوارث الذي كان ضيف الحلقة، استنكر ما قالته المذكورة، وكان قد قال انه لو علم أنها ضيفة الحلقة لما شارك فيها.. معه حق.
ودت المذكورة أن تتحول، ولكن لأن إمكانياتها لا تؤهلها لذلك فقد ذهبت لتقول أي كلام، وكذلك فعلت الهام شاهين، التي لم تكتف بالسعي لتشويه وجه الثورة المشرق من خلال تلفزيون انس الفقي وصديقه عبد اللطيف.
وإنما انطلقت لتهاجم منى سلمان، مذيعة 'الجزيرة'، التي جعلت من 'الجزيرة مباشر' لسان حال الثورة، فطاردها انس الفقي.
الهام، التي كانت تتقرب لأهل الحكم زلفى، قالت وعلى طريقة ردح الحواري، '.. وواحدة تحمل الجنسية المصرية للأسف تسيء لمصر'.. مع أن مني حددت موقفها منذ اللحظة الأولى، وانحازت للشعب المصري، وهي لم تمنح الجنسية عطفاً وكرماً من مبارك والذين معه.
في حين أن الهام تريد أن تقفز الآن من السفينة الغارقة فتعجز، على الرغم من محاولات مذيعة 'الحياة'.. رولا خرسا، حرم السيد عبد اللطيف المناوي للأخذ بيدها، والحال من بعضه، فرولا راهنت على النظام منذ اللحظة الأولى، لان مصالح العائلة في استمراره فسقط.
أهل الفن، ولأنهم غلابة، فقد عجزوا عن أن يتحولوا، في حين أن الإعلاميين تحولوا، في الصحافة والتلفزيون، وصار تامر بن أبيه يتحدث باسم الثورة.
تماما كما يفعل رؤساء الصحف القومية، أعضاء لجنة السياسات بالحزب الحاكم سابقا، بقيادة الزعيم الهارب جمال مبارك.
وهيلاري كلينتون كانت مثلهم، فقد تحولت وجاءت لتشيد بالثورة، وتزور 'ميدان التحرير'.. لدرجة أنني بت اخشى من أن يطالب المتأمركون المصريون في ظل حالة التستر على ما فعلت.. بأن توضع صورتها وسط شهداء الثورة.
أرض جو
الذي يشاهد التلفزيون المصري هذه الأيام سوف يستقر في يقينه أن الإخوان المسلمين تولوا الحكم، فكما كان هناك إسراف في التغييب صرنا أمام إسراف في الاستضافة.
اثنان يبدو أن هناك من يتدخل لحمايتهما: الرائد متقاعد صفوت الشريف المتهم بشهادة المتهمين بالتحريض على 'موقعة الجمل' عندما تم استدعاء الخيل والبغال والحمير واقتحام 'ميدان التحرير' أيام الثورة.
والثاني هو الأخ العقيد عبد اللطيف المناوي.. الأول لم يتم استدعاؤه حتى الآن للتحقيق معه في ما هو منسوب إليه، والثاني لا يزال يدير التلفزيون المصري مع انه ينتمي إلى العهد البائد.