الإسلام السياسي .. محاولة للتأصيل خليل العناني على الرغم من الاهتمام المتزايد بظاهرة الإسلام السياسي، إلا أنه من الصعوبة بمكان الإقرار بالتوصل إلى صيغة نهائية يمكن من خلالها الإمساك بتلابيب هذه الظاهرة مفاهيمياً ومنهجياً وسياسياً. ومرد ذلك عوامل عديدة، منها ما يتعلق بطبيعة الظاهرة نفسها، وهو ما يتحدد في ثلاثة عناصر، أولها الاستمرارية والديمومة، وذلك نتيجة للطبيعة الحركية لتنظيمات الإسلام السياسي، فبعضها اكتملت ملامحه، وبعضها لا يزال في طور التشكل ولم يستقر بعد على هيئة بعينها. وثانيها ، التنوع الشديد للظاهرة ، والذي يوقف عملياً أي محاولة لتطوير منهجية بعينها يمكنها تشريح الظاهرة، واستخراج مكنوناتها على نحو جلي. وثالثها، الطابع الإيديولوجي المتحرك للظاهرة، والذي هو بدوره متغير بتوسع شبكتها العقائدية، وألوان طيفها الفكري والسياسية. ومنها ما يتعلق بطبيعة الأنساق السياسية والاجتماعية التي نمت فيها ظاهرة الإسلام السياسي، وهي على تشابهها في حالات النشوء، إلا أن عملية التطور الذاتي لجزئيات الظاهرة واختلافها من بلد إلى أخرى، يجعل من إحداها ظاهرة قائمة بذاتها، بشكل قد يستدعي دراستها بشكل منفصل ومستقل مراعاة لخصوصيتها وظروف ارتقاءها. في حين يتعلق البعد الأخير لتعقد ظاهرة الإسلام السياسي ، بالسياق الدولي للظاهرة، ومدى انعكاسه على نظرة مفردات الظاهرة لنفسها، ولعلاقتها بالآخر، فضلاً عن الأثر التشابكي الذي يطرحه هذا السياق على زيادة غموض الظاهرة، وطمسها بغابة من المفاهيم والمصطلحات غير المتجانسة، والتي تصطبغ بقدر كبير من التسييس والأدلجة. ويمكن القول إن الطابع الحركي لظاهرة الإسلام السياسي كان أسبق من نظيره المعرفي - التأصيلي، أي أن الحركات التي انطلقت من خلفية دينية باعتبارها أيديولوجية سياسية، لم تكن تعرف نفسها باعتبارها حركات "إسلام سياسي"، بقدر ما كانت تعرف نفسها بوصفها حركات إحيائية. على أن هذه الظاهرة "الإحيائية" لم تتبلور بشكل واضح، بحيث بدأت تأخذ منحى الأسلمة "السياسية"، وتداخل الديني مع السياسي، إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية على أيدي كمال الدين أتاتورك عام 1924، حيث بدا أن ثمة فراغاً روحياً وسياسياً وقعت فيه الشعوب العربية، وألهب العديد من المفكرين والمثقفين ضرورة العمل على ملء هذا الفراغ. وهي حال عمت العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه. ففى مصر تابع رشيد رضا، مسيرة محمد عبده ، وذلك على مدار الثلاثين عاماً التي تلت وفاة أستاذه، وسوف يلعب رشيد رضا، الذي ركز على إنعاش النزعة الأصولية الفكرية في مواجهة عري التفكك والتحلل بسبب سقوط الخلافة، دوراً محورياً في تشكيل اللبنات الأولى لظهور أكبر جماعة إحيائية في التاريخ المعاصر، وهي جماعة الإخوان المسلمين. وفي الهند لعب محمد إقبال، الشاعر والفيلسوف الهندي المعروف 1873 - 1938) دوراً مهما فى نشر النزعة الإحيائية بالهند وجنوب آسيا ، وكان أحد اللبنات المؤثرة في قيام الجماعة الإسلامية بالهند عام 1940 على أيدي أبو الأعلي المودودي (1903-1979)، والتي انقسمت إلى جماعتين إحداهما في الهند والأخري بباكستان بعد انفصال البلدين عام 1947. كما ظهرت حركة سعيد النورسي (1873-1960) في تركيا عام 1926والتي لعبت درواً مهما في الحفاظ على الهوية الإسلامية للدولة التركية ، التي حاول أتاتورك محوها عبر سياسات التتريك التي اتبعها منذ إلغاءه للخلافة الإسلامية. ولكن بوجه عام يمكن القول بأن خمسة أبعاد رئيسية يمكنها أن تشكل "إطاراً" مفاهيمياً لما يعرف بالإسلام السياسي، بحيث لا يمكن الخروج عنها عند البحث عن تعريف واضح ومحدد لهذه الظاهرة، وهي: البعد التاريخي: ويقصد به ذلك التأثير السيكولوجي الذى تتركه الذاكرة التاريخية على سلوك وأداء الإسلاميين. ففي معظم حالات الإسلام السياسي هناك اهتمام، قد يصل لدى البعض إلى حد التقديس، بالتاريخ الإسلامي, والرغبة فى استعادة حقب تاريخية بعينها، خصوصاً تلك التي شهدت ازدهار الحضارة الإسلامية. وهو ما يعبر عن نزعة ماضوية تستلهم الماضي، وتسعى لاستحضاره في الحاضر والمستقبل. البعد الإحيائي، تتسم الظاهرة الإسلامية، بكافة أشكالها السياسية والدينية، بقدر عالٍ من الإحيائية والرغبة في تجديد المركب الديني في كافة مناحي الحياة. وهي نزعة طهورية خلاصية تنظر للمستقبل بعين مثالية، وتنحت لنفسها نموذجاً طوباوياً للمجتمع تسعى بكل جهد للوصول إليه. البعد الإيديولوجي، تحتفظ معظم حركات الإسلام السياسي ببعد أيديولوجي - عقائدي، وتتعاطى مع الإسلام انطلاقاً من أيديولوجيا سياسية. فالإسلام بالنسبة لها ليس مجرد نصوص دينية، وإنما برنامج وخطة عمل يتم استحضارها بشكل قوي في العمل السياسي والحركي. البعد التنظيمي: تتمتع حركات الإسلام السياسي ببنية تنظيمية حركية قوية تضاهي، وربما تتفوق ، على نظرائها من الوسائط السياسية كالأحزاب وجماعات الضغط، لذا فهي تتمتع بحضور سياسي واجتماعي قوي داخل البنية المجتمعية، بحيث توفر لنفسها أرضية خصبة من المؤيدين والأتباع. البعد الخارجي: ونقصد به تحديداً البعد العولمي - الحداثي ، فجميع حركات الإسلام السياسي، دون استثناء، تعيش حالة مركبة ما بين كونها رد فعل على التدخل الخارجي الخشن، بشقيه السياسي والثقافي، في شؤون المجتمعات الإسلامية، كما أنها في نفس الوقت تسعى، وبكل قوة، إلى استحداث نموذج إسلامي "حياتي" يقارب، وربما يناطح، النموذج الحداثي - الغربي. لذا تجد سلوكياتها ومواقفها موتورة تجاه العديد من القضايا والإشكالات التي تفرضها موجة العولمة والحداثة على المجتمعات العربية والإسلامية. وعليه يمكن القول بأن ما يعرف بظاهرة الإسلام السياسي، إنما يعبر عن حالة سوسيولوجية مركبة، تتلبسها حركات وتيارات اجتماعية وسياسية تتمتع ببنية تنظيمية محكمة، وبإيديولوجيا سياسية محددة، وتسعى باتجاه فرض نموذج سياسي ومجتمعي بعينه. عن صحيفة الوطن العمانية 3/11/2007