ضبابية الواقع الفلسطيني د. عبدالله السويجي منذ أن أكملت حركة حماس سيطرتها على قطاع غزة في الأسبوع الأول من يونيو/حزيران من هذا العام، والقضية الفلسطينية تعيش ضبابية سياسية ومأساة اقتصادية، وتراجعاً اجتماعياً على كل الصعد. ومبعث هذه الضبابية إخلاء فتح لعناصرها وعائلاتهم من قطاع غزة وخروجهم إلى الضفة الغربية، أو إلى مصر ثم التوجه إلى الضفة، الأمر الذي يعني فصلاً تاماً بين المنطقتين الفلسطينيتين. وهذا الانفصال أعطى الرئيس محمود عباس انفراداً بالقرارات، وربما وجدها فرصة للمضي بالمفاوضات مع الجانب الصهيوني بعيداً عن المجلس التشريعي الذي كانت تسيطر عليه حماس، وبعيداً عن المشاركة السياسية مع بقية التنظيمات الفلسطينية، وهكذا اتفاق، إن كتب له النجاح نظرياً، ليس من المرجح أن ينجح على الصعيد الفلسطيني التطبيقي، لأنه يستبعد شريحة كبيرة من الفلسطينيين، وهنا تكمن أسرار السراب المنتشرة على الأرض الفلسطينية والأجواء السياسية، إذ قد يبدو للمحلل أن هناك اتفاقاً ما، ولو بشكل خفي، على هذا الانفصال، وإلا كيف يعتقد الرئيس الفلسطيني أن بإمكانه المضي بالمفاوضات وحيداً من دون مشاركة فلسطينية؟ إن المفاوضات ليست إلا جانباً واحداً من تجسيد الشق الفلسطيني والانشقاق في بنيته وكتلته الواحدة، بينما الجوانب الأخرى من المأساة، وكما يبدو، فإن التعامل مع قطاع غزة بات وكأنه تعامل مع منطقة بعيدة عن مركزية السلطة الفلسطينية، ولهذا، فإن الحديث مع أولمرت يأخذ طابع المخاوف فقط! حيث أكد محمود عباس على المخاوف الفلسطينية والدولية التي مفادها أن من شأن الإجراءات التعسفية الصهيونية، ومن بينها قطع الكهرباء عن قطاع غزة، قد يرقى إلى عقاب جماعي. هكذا تبدو الصورة لينة هشة ومريبة، حين تكون اللغة مراوغة وضعيفة مع أولمرت، الذي بلا شك، يتخذ خطوات عقاب جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، بينما تنعم الضفة الغربية بالكهرباء والرواتب والحياة العادية. وقد أتى ذلك بعد أن دافع أولمرت عن موافقة الحكومة الصهيونية على الرد على الهجمات الصاروخية الفلسطينية بقطع الكهرباء عن قطاع غزة، حيث يحصل القطاع على 60% من احتياجاته من الكهرباء من شركات صهيونية. وقد جاءت هذه المواقف خلال اجتماع أولمرت بالرئيس الفلسطيني يوم الجمعة الماضي، حيث ركز النقاش على بحث المؤتمر الدولي المزمع عقده في الفترة القادمة لبحث الوضع النهائي بين الفلسطينيين والصهاينة. لكن حماس، وعلى لسان زعيمها إسماعيل هنية دانت الاجتماع بين عباس واولمرت، وطالب هنية “بالتوقف عن هذه الاجتماعات التي أصبحت غطاء لعمليات القتل والاجتياحات والاغتيالات “الإسرائيلية" في قطاع غزة". قطاع غزة، الذي يعيش مأساة إنسانية حقيقية، الذي تم تصنيفه بأنه الأفقر والأكثر كثافة سكانية على صعيد العالم، معرض لإبادة بطيئة أمام عيون كل الأطراف الفلسطينية والعربية والعالمية، وسيكون ضحية لأي اتفاق قد يتم بين السلطة والكيان الصهيوني، ناهيك عن أن حركة حماس قد تم تصنيفها على أنها “حركة إرهابية". هذا القطاع، الذي تنطلق منه صواريخ بدائية لا تقتل ولا تصيب أحداً إلا ما ندر، ولا تشكل توازن رعب مع قوات الاحتلال، يتلقى في كل مرة رداً عنيفاً، إذ تقوم قوات الاحتلال بقتل وجرح العشرات، حتى بات الموت روتيناً يومياً، والجنازات مشاهد اعتيادية. هذا القطاع، بدأ سكانه يسألون السؤال الأزلي: إلى متى؟ وهل بمقدور حركة حماس الوقوف أمام الآلة العسكرية الصهيونية، وهل بمقدورها خلق معادلة الرعب مع الكيان الصهيوني، كما فعلت المقاومة اللبنانية وعلى رأسها حزب الله؟ وما آفاق الانفراج الثوري أو الوطني أو الاجتماعي أو السياسي لمئات الآلاف المحاصرين في القطاع، في الظلام والجوع والفقر والخوف والمستقبل الغامض، والرؤية السياسية الضبابية؟ لقد أوردنا وصفاً للفريقين المتحاربين اللذين تحولا إلى عدوين شرسين، يتهم كل طرف منهما الآخر بالعمالة، إسماعيل هنية يتهم السلطة بالتآمر على الشعب الفلسطيني، وحركة فتح والسلطة الفلسطينية تتهم حركة حماس بالتآمر والانقلاب على الشرعية، حتى إنها اتهمتها بأنها أجرت اتصالات مع العدو الصهيوني، وهو أمر عجيب، فهل لا تزال الاتصالات مع العدو الصهيوني تشكل وصمة أو عاراً، فالكل يتصل والكل يتفاوض، مدعياً أنه يعمل من أجل هذا الشعب الذي خسر من الشهداء والجرحى والمعاقين ما خسرته دول كبيرة في حروب التحرير والاستقلال، من دون أن تظهر بارقة أمل صغيرة، بأن الأمور تسير نحو الانفراج النسبي. من المؤكد، أن قادة الفريقين المتقاتلين لا يشعرون، ولا يعلمون شيئاً عن طبيعة الحياة المزرية لعامة الشعب، لا يعانون من انقطاع الكهرباء أو فراغ البطون والجيوب ولا الانقطاع عن المدارس ولا الخطر اليومي ولا يفقدون أبناءهم كل يوم. إنهم يتشاجرون على الفضائيات وفي المؤتمرات الصحافية، ثم يعودون إلى حياتهم المرفهة، الوزراء والمسؤولون يعيشون في بحبوحة، ومسؤولو التنظيمات لهم أوضاع خاصة، أما النكبات فهي من نصيب عامة الشعب، الذي يصفونه بأنه وقود المقاومة، وتحول إلى وقود الاقتتال. إن الموقف العربي الصامت والبطيء غير العابئ بالزمن ولا معاناة الناس العاديين في الأرض المحتلة وخارجها، يفاقم من المأساة، ويتصرف العرب وكأن المسألة شأن داخلي بين الفلسطينيين، ولا بد أن يتفقوا، شأنها شأن القضية اللبنانية، التي علم الجميع بأنها ليست شأناً داخلياً، بدليل التدخلات الخارجية لاختيار الرئيس. والقضية الفلسطينية أيضا ليست شأناً داخليا للفلسطينيين، وعلى كل من يتاجر أو يقود الفلسطينيين إلى الموت من دون وجه حق، أن تتم محاكمته كخائن لوطنه وشعبه. لقاء السلام على الأبواب، وخريطة الطريق التي تم إقرارها قبل سنوات قليلة تعود للظهور من جديد، هذه الخريطة التي عبث بها الصهاينة حتى أفرغوها من محتواها، تعود لتشكل أساساً للتفاوض، أي يعود الجميع إلى نقطة الصفر. وينسى العرب والفلسطينيون أن أحد المسؤولين الصهاينة قال إنه سيفاوض العرب والفلسطينيين لعشرات السنين، فماذا ينتظرون من المؤتمرات؟ هنالك حل واحد لا ثاني له، هو أن تعود اللحمة للشعب الفلسطيني، وإذا فشلت هذه القيادات، مثلما أفشلت اتفاق مكة، فإن على الشعب الفلسطيني أن يثور ويبدأ انتفاضة داخلية، ضد الجوع والبطش والخوف وإضاعة القضية وتقديم التنازلات. عن صحيفة الخليج الاماراتية 29/10/2007