عكا .. مدينة في صدر المدن زهير ماجد سلام للمدن الفلسطينية وهي تقارع أبشع انواع التطهير العرقي والسعي لاجتثاث ما تبقى من ارث فلسطيني. في الخيال التراثي ان حبلا سريا يربط المدن العربية في فلسطين بذاكرتين مترابطتين: الحياة الهادئة الوادعة التي عاشتها اجيال فلسطينية على ارضها، ثم المشاهد المروعة للاقتلاع الذي جسد القرن الماضي وأضاف على أزماته تلك الصور التي لا تنساها الوثائق الفلسطينية وتكاد أن لا تغرب عن العقل الفلسطيني لحظة واحدة. أحب المؤرخ الاسرائيلي ايلان بابه أن يذكر من لا تنفعه الذكرى بأن ما حصل في فلسطين كان تطهيرا عرقيا ولا مجال لذكر كلمة النكبة في هكذا مصير. ومثل بابه كثير من اليهود الذين يعرفون تلك التفاصيل المروعة التي تمكن خلالها الاسرائيلي من طرد أكثر من مليون فلسطيني دفعة واحدة ومن شتى الاماكن الفلسطينية .. ذلك المشهد الذي صوره الشاعر العراقي بدر شاكر السياب بقوله:" أرأيت قافلة الضياع / أما رأيت النازحين / الحاملين على الكواهل منذ آلاف السنين / آثام كل الخاطئين". يحرق اليهود بيوت العرب في عكا ويهاجمون ما تبقى منهم. إنها النار المضرمة في قلب اليهودي قبل أن يحولها إلى فعل ونتيجة. لم ترضه ما ارتكبت اياد من سبق من اجيال يهودية حتى جاء الموعد الجديد في عكا على أمل الفوز بخروج من تبقى من عرب في تلك المدينة التي هي صدر المدن العربية في فلسطين ، وهي والتاريخ منبع واحد ، وجهها شطر البحر حيث الصورة المتكررة لجحافل الغزاة ، وعمقها المتجذر في الذي يلفه الحبل السري مع بقية المدن العربية المنتظرة للثأر في يوم موعود . أكثر من سبعة عشر الف عربي ما زالو في تلك المدينة تحركوا كالجسم الواحد ضمن أبعاد التعبير عن الصوت الواحد الذي لا يبخل في لحظة كهذه من اعادة السيطرة على التاريخ من جديد. الحدث العكاوي المتجدد يشكل ردة فعل ، لكنه استمرار لفعل التعبير عن حالة الغليان الثابت في عروق ابناء المدينة وكل المدن العربية التي تتطلع إلى دور ضمن سياق التاريخ ذاته. اذ لا يعتقد أحد ان النار لا تأكل احيانا من أشعلها ، وان منطق القلة والأكثرية يغلف على الدوام طابع عدم الاتزان في الحياة الاجتماعية طالما ان ليس هنالك مساواة في الحقوق والواجبات. لم يستطع جبروت نابليون بونابرت أن يفتتح عكا ، ولا استطاعت جيوش الصليبيين الولوج إليها الا بعد لأي طويل ، ظلت عكا أم السور التاريخي تحاصر نفسها كي تبعد عنها حصار الآخر ، بل هي على حد تعبير الشاعر محمود درويش تحاصر الحصار كي تبعد عنها الكأس فيسلم من تبقى فيها. المدن العربية في فلسطين تتآخى خارج الحدث وفي متنه وبعده .. إنها الامتداد الواحد لكارثة التطهير العرقي التي جسدت ولم تزل كل معاني الرذيلة في تاريخ مملوء بالرذائل . عندما كان الشعار ان الارض مثل العرض ضحك كثيرون وسخروا منه ، لكن معناه ظل حكاية ونشيدا متوارثا بين اجيال تصعد الى الحياة كي تملأها بالحنين المستمر اليها. عكا اليوم تقف عند خط النار وفي الخندف الامامي .. انهم ابناء فلسطين الذين لهم مواعيد قادمة تأبى ان تنسى كما تأبى ان تغفر. وسيظل الحبل السري المجبول بالدماء صانع النص الذي يحرك كي يظل على حراكه بانتظار الأمل الموعود. لعكا وكل مدينة وقرية وبلدة وريف فلسطيني ألف تحية ، وإنذار لموعد مستحق ان ما يجري هو جزء منه ليس الا ... عن صحيفة الوطن العمانية 13/10/2008