إطلالة روسية جديدة علي البحر المتوسط د. خالد عبدالعظيم شهدت منطقة البحر المتوسط في الآونة الأخيرة مجموعة من التحركات ذات المنحي الاستراتيجي, إذ زار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الجزائر- منذ أسابيع قلائل- وفي ذات الفترة تم توقيع مذكرة تفاهم بين سوريا وروسيا بموجبها يقوم ميناء طرطوس السوري بتموين القطع البحرية للأسطول الروسي الذي سوف يبدأ في استعادة وجوده في البحر المتوسط بعد غياب دام سنوات طويلة, تحركات لا تخلو من الدلالات الاستراتيجية التي لا يتأتي إدراكها إلا بالعودة إلي المشهد الفارق الذي أنشأ سياقا سياسيا نوعيا جديدا في منطقة البحر المتوسط. هذا المشهد الفارق كان تحديدا قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- في فترة سابقة للتحركات المشار إليها- بزيارة الجزائر, وهي أول زيارة لزعيم روسي للجزائر, ورغم أن الزيارة استغرقت فقط ساعات قليلة فإنها انتهت بتوقيع أكبر صفقة دفاعية تبرمها موسكو منذ تفكك الاتحاد السوفيتي, وهو تطور مفاجئ وحاسم, وقد أدي الي ان يسافر مباشرة الي الجزائر ديفيد وولش مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إذ أدركت الدبلوماسية الأمريكية أن... صفحة جديدة من تاريخ المنطقة قد بدأت! ثم جاءت النقلة الثانية للتحرك الروسي باتجاه الجزائر- بعد النقلة الأولي ببضعة شهور- وكان ذلك في خلال عام2007 الذي شهد توقيع اتفاقية شراكة بين أكبر شركة روسية لإنتاج الغاز الطبيعي وهي شركة غاز بروم وشركة سوناتراش في الجزائر وهي الشركة الوطنية لإنتاج الطاقة, والسؤال هو: لماذا تحرك الكرملين باتجاه الجزائر بكل هذا الزخم الهائل؟! قد تكون هي رغبة موسكو في إحياء علاقات دفاعية قوية وقديمة مع هذه الدولة, وهي علاقات تعود إلي أوائل الستينيات.. ولكن ليس ذلك هو كل ما كانت تعنيه زيارة بوتين للجزائر التي ما من شك أنها دولة تعني للاستراتيجيين الروس: جيو- سياسات الموقع والطاقة, إذ إن جانبا كبيرا من خطوط إمداد الغاز الطبيعي لأوروبا تمر كلها عبر الجزائر ومنها إلي المنطقة المواجهة وهي جنوب أوروبا: فرنسا, إيطاليا, إسبانيا والبرتغال. وبذلك فإن اتفاق الشراكة الروسية- الجزائرية في عام2007 بين شركتي غاز بروم وسوناتراش يجعل روسياوالجزائر تسيطران علي ما يقارب40% من إمدادات الغاز الطبيعي لدول الاتحاد الاوروبي وهي نسبة استراتيجية للغاية تجعل الاقتصاد الاوروبي مرتهنا والي حد كبير بالامدادات القادمة من روسياوالجزائر وهو ما يفسر زيارة الرئيس الايراني احمدي نجاد منذ اسابيع قلائل الي الجزائر بهدف تدعيم العلاقات الثنائية بين الدولتين في مجال انتاج الغاز الطبيعي والاستثمارات الصناعية, اذ ان الدول الثلاث روسياوالجزائر وايران تنتج ما يقارب30% من الانتاج العالمي للغاز الطبيعي وإن قرار طهران بتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية مع الجزائر عقب تدشين الشراكة الروسية الجزائرية في مجال انتاج الغاز الطبيعي انما يبرز حرص طهران علي الاقتراب بشكل سياسي واقتصادي وثيق من خط الامداد الاول والرئيسي للطاقة في البحر المتوسط باتجاه القارة الاوروبية باعتبار ان امدادات الغاز الطبيعي يمكن ان تكون عاملا حاسما في العلاقات الايرانية- الأوروبية, وهو ما يفسر معارضة النمسا- اخيرا- لاقتراح فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة علي إيران غير العقوبات التي تفرضها الأممالمتحدة, اذ ان خط نابوكو المقترح للغاز الطبيعي الاير اني سيكون باتجاه النمسا. اما موقف موسكو من الجزائر فلا يمكن فهمه فهما كاملا إلا باعتباره جزءا من كل, اي نقلة في اطار استراتيجية تهدف الي استحواذ موسكو بدرجة كبيرة علي امدادات الطاقة المتجهة الي اوروبا, إذ زار بوتين كذلك العاصمة اليونانية اثينا في شرق البحر المتوسط في عام2007 لتدشين بدء العمل في بناء خط بترولي روسي بامتداد280 كم بداية من ساحل بلغاريا علي البحر الأسود حتي ساحل اليونان علي بحر إيجه وهو نطاق مائي بالبحر المتوسط, أما ألمانيا فتحظي باهتمام فائق من جانب موسكو إذ تتكاثف البحرية الروسية في بحر البلطيق لبناء خط روسي للغاز الطبيعي بامتداد1200 كم سوف يمثل أكبر مشروع لإمداد الاقتصاد الألماني بالطاقة. وبذلك فتحرك روسيا علي الخريطة السياسية يأخذ شكل نصف دائرة كبري تبدأ في أقصي الشرق علي ضفاف البحر الأسود في ميناء سياستبول جنوب أوكرانيا, اذ استأجرت روسيا هذا الميناء حتي عام2018 وهو الميناء الذي مازال به اكبر ترسانة لبناء الاسطول الروسي ثم تتطور نصف الدائرة باتجاه ميناء طرطوس في شرق البحر المتوسط وصولا الي الجزائر في غرب البحر المتوسط وتكتمل نصف الدائرة في بحر البلطيق. ذلك كله يعني اننا امام تحرك مدروس في نقلاته, اذ ان تحرك روسيا- مؤخرا- لاستعادة الوجود البحري والسياسي في شرق وغرب البحر المتوسط عبر اتفاقيات استراتيجية مهمة, انما يعبر عن دلالتين. الدلالة الأولي: السعي إلي الوجود مرة اخري في ذلك الجانب من العالم العربي الذي كان مهد المد القومي العروبي الثوري والذي يقع علي امتداد الساحل الجنوبي للبحر المتوسط, اما الدلالة الثانية فهي ان توجد روسيا في هذا النطاق العربي المتوسطي يتيح لها استكمال دائرة الوجود الجيو- سياسي حول القارة الأوروبية من شرقها إلي غربها, ومن جنوبها الي شمالها باعتبار ان البحر المتوسط هو نطاق وسيط بين البحرين الأسود والبلطيق. وبالتالي فوجود روسيا علي الساحل الجنوبي للبحر المتوسط يتيح إمكان ان تطرح مشروعات تكنولوجية وإنمائية في ذلك الشريط الساحلي المتوسطي للمنطقة العربية في ضوء توجه موسكو لسياسة أكثر تكاملا تجاه أوروبا وذلك في ظل مقدمات حرب باردة جديدة لكن مغايرة! إذ ان البحر المتوسط يتيح لروسيا الدخول إلي المجال الحيوي لجنوب وغرب أوروبا وهو ما يبرز أهمية شمال إفريقيا في الاستراتيجية العالمية. في هذا السياق من التنافس الدولي يبرز مشروع الاتحاد المتوسطي باعتباره النقلة الأوروبية باتجاه شمال إفريقيا وهي نقلة مضادة لاحتواء قوي منافسة بما يمثل دفاعا عن عمق اوروبا الاستراتيجي: منطقة شمال إفريقيا. تدعونا هذه التطورات إلي الاعتقاد أنه قد آن الأوان لاعتبار منطقة البحر المتوسط دائرة اقليمية تتجاوز في أهميتها الاستراتيجية الفائقة آليات التعاون القائمة, إذ إن هذه الدائرة في ظل حرب باردة واردة سوف تشهد تنافسا بين قوي دولية متباينة وهو تحول يدعونا الي فكر جديد استراتيجي ومتكامل بما يطور سياسة مصر في البحر المتوسط في عصر قادم تبرز فيه أوروبا الجديدة عند حدودنا الشمالية باعتبارها مركزا عالميا للحضارة والتجارة. عن صحيفة الاهرام المصرية 24/10/2007