أوسيتيا الجنوبية .. علامة أخرى على التراجع الأمريكي * د. أسامة عثمان
لم تتأخر روسيا في استثمار الفرصة التي وفرتها جورجيا لرد اعتبارها أمام الدول الغربية, والولاياتالمتحدة على الأخص, فقد ردت على جورجيا التي حاولت إخضاع أوسيتيا الجنوبية لها بالقوة برد عسكري شديد, أحرج الولاياتالمتحدة؛ فأدانته على لسان نائب رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي، جيمس جيفري، ووصفته ب " التصعيد غير المتكافئ والخطير" الذي تقوم به القوات الروسية. وأضاف المسؤول الأمريكي أن من شأن التصعيد أن يؤثر على العلاقات بين الولاياتالمتحدةوروسيا على المدى البعيد. وتابع أن الإدارة الأمريكية "منزعجة بسبب الوضع". فيما وجهت وسائل إعلام روسية أصبع الاتهام إلى الولاياتالمتحدة من خلال حض جورجيا على الاعتداء على أوسيتيا الجنوبية وإمداد جورجيا بأسلحة حديثة منذ فترة من أجل تنفيذ الهجوم. وقد توسعت روسيا في ردها على الهجوم الروسي حتى طالت هجماتها مطار العاصمة الجورجية تبليسي، و أكد مراقبو الأممالمتحدة أن الطيران الحربي الروسي قصف قاعدة جوية جورجية قرب العاصمة تبليسي، وكان الطيران الروسي قصف أيضا مدينة جوري الجورجية. وتشي الأعمال العسكرية التي طالت جورجيا باستهانة روسيا بالغرب والولاياتالمتحدة, بقدر ما يدل على تنامي الدور الروسي في العالم, وتعاظم مكانتها؛ ما جرأها على هذا التحدي الصريح والمجابهة السافرة مع واشنطن, كما عكست ذلك النقاشات التي دارت بين مندوبي البلدين, والرد الحاد الذي رده المندوب الروسي في وجه الدولة التي ما عادت كما كانت منذ تورطت في أفغانستان والعراق. وقد ربط المحللون بين ما أقدمت عليه الدول الغربيةوالولاياتالمتحدة من تسهيل فصل إقليم كوسوفو عن صربيا, والموقف الروسي الذي نشط في فصل أوسيتيا الجنوبية, وأبخازيا, عن جورجيا الموالية للغرب ولأمريكا, الأمر الذي تراه روسيا خطرا على مجالها الحيوي, وحديقتها الخلفية. وقد شعرت جورجيا بمقدار الخذلان الذي منيت به من أمريكا المتحالفة معها في مشاريعها خصوصا الحرب على "الارهاب" والحرب في العراق حيث تشارك جورجيا بألفي جندي, لتكون ثالث أكبر قوة هناك بعد الولاياتالمتحدة وبريطانيا؛ فسحبت ألفا من جنودها في العراق, لكن الهجوم الذي تورطت فيه جورجيا يمكن أن يعد من الوجهة الأمريكيةوالغربية مجازفة ومغامرة أو عملا طائشا, ولكنه في الواقع لا يعدو كونه رهانا خاسرا.
وحالة الولاياتالمتحدة في العالم لا تسمح لها بالتدخل العسكري لمساندة جورجيا, كما أن روسيا تستند إلى موقف سياسي وشرعي أقوى؛ إذ عدت الهجوم الجورجي خرقا لاتفاقات سابقة, واعتداء على قواتها العسكرية المرابطة في أوسيتسا لحفظ السلام, إذ رأت أنها تحركت "ضمن المهام المناطة بها من قبل مجلس الأمن الدولي لحفظ السلام في الإقليم, خاصة مع مقتل عدد من جنودها إثر الهجوم الجورجي" ثم هي مدعومة بتأييد كبير من الشعب في أوسيتيا الذي تربطه بروسيا والاتحاد السوفيتي, من قبل, علاقات تاريخية متميزة, وفوق ذلك هو شعب مصمم على الانفصال عن جورجيا, وليس أوسيتيا وحدها,إذ يوافقها التوجه ذاته أبخازيا. وعن سوء التقدير الذي وقعت فيه جورجيا:" تقول صحيفة الأبزورفر إن مايكل ساكاشفيلي الرئيس الجورجي (الذي وعد بإعادة الإقليميين الانفصاليين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا إلى البلاد بانتهاء مدة ولايته) قد فسر على ما يبدو إعلان الأمين العام لحلف الناتو في مؤتمر بوخارست قبل أشهر عن ثقته بأن جورجيا وأوكرانيا ستنضمان في النهاية إلى الحلف بأنه تضامن شديد معه, وإيذان بإجبار الانفصاليين على الخنوع، وإن ساكاشفيلي قدر بأن أحدا لا يجرؤ على غزو دولة ستكون عضوا في حلف الناتو في المستقبل، ورئيس جورجيا كان مخطئا في تقديره. " والسؤال: لماذا لم يتخذ الناتو موقفا عمليا من الهجوم الروسي العسكري الذي يهدد جورجيا العضو في مجلس أوروبا منذ آب/أغسطس 1999, والتي تأمل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. والمرتبطة باتفاقات شراكة وتعاون وقعت مع الاتحاد الأوروبي,مع ما يسببه ذلك من قلق لدول أخرى مثل أوكرانيا؟ قد يعود ذلك إلى قوة الموقف الروسي فيما يتعلق بحقها في إرجاع الأوضاع في أوسيتيا الجنوبية إلى ما كانت عليه قبل الهجوم الجورجي, وقد يكون في الأسباب أنه ليس ثمة موقف واحد وموحد على درجة من المواجهة مع روسيا؛ فلأوروبا مصالح مع روسيا وآمال في علاقات استراتيجية. فقد أبرمت روسيا مع دول الاتحاد الأوروبي - 28/06/08// اتفاقا استراتيجيا, بحسب البيان المشترك الذي صدر عن القمة, مؤكدا أن الطرفين «اتفقا على أن يهدف العمل إلى إبرام اتفاق إستراتيجي يضع أساساً شاملاً للعلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي في المستقبل المنظور، ويساعد في تطوير طاقات التعاون بينهما». ولم يكن الجانب الاقتصادي مغيبا عن الاتفاق, فقد شغل ملف إمدادات الطاقة إلى أوروبا، حيزاً مهماً من النقاش. وعكس المؤتمر الصحافي المشترك تقارباً في وجهات النظر حيال هذا الملف، إذ أكد ميدفيديف أهمية إنجاز كل المشاريع الهادفة لضمان استقرار الإمدادات، مشيرا إلى مشروعي أنابيب الغاز الشمالي والجنوبي اللذين يتضمنان مد خطوط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى شمال أوروبا وجنوبها. طبعا ليس من المتوقع أن تتخلى دول الاتحاد الأوروبي عن مساندة جورجيا, والالتزام الأخلاقي الذي تفرضه علاقاتها بها, لكن ذلك لا يدفع بالموقف الأوروبي نحو التصعيد المطلق مع روسيا؛ لما قد يكون قدر من التفهم لأهمية منطقة النزاع لروسيا, وأحقيتها بجوار آمن. وأما أمريكا فقد هددت روسيا أن علاقتها بها سوف تتأثر,بسبب سلوكها في النزاع الدائر بينها وبين جورجيا, ولعل هذا التهديد لا يحسب له كبير حساب في السياسة الروسية؛ لما تعايشه الأخيرة من سياسات أمريكية غير توافقية قائمة أصلا؛ ولعل أبرز أسباب التوتر ومؤشراته خطة أمريكا في بناء درعها الصاروخي في القارة الأوروبية, ولعل آخره توقيع رايس اتفاقا مع نظيرها التشيكي كاريل شفارتسنبرغ وافقت تشيكيا بموجبه على نشر محطات رادار في أراضيها. فهي ماضية في مشاريعها منفردة بالرغم من المعارضة الروسية التي بلغت مرحلة التهديد بالرد عليه في حال نفذ. ولا تبدو هنا أوروبا بمثل الحماسة الأمريكية للمشروع, وحتى تشيكيا التي وقع وزير خارجيتها ذلك الاتفاق يستبعد أن تسمح بتمريره؛ بسبب المعارضة الشديدة من أعضاء البرلمان التشيكي ومن الشعب التشيكي الذي تقدر تقارير نسبة المعارضين فيه ب 70% . فيبدو الاتجاه الدولي سائرا نحو توازنات دولية جديدة آخذة في التبلور بروسيا الصاعدة اقتصاديا والطامحة إلى استعادة مكانتها الدولية, وأمريكا المشغولة باستعادة شيء من عافيتها على الساحة الدولية, وعلى الصعيد الداخلي بإنقاذ اقتصادها الذي واجه مشكلات جدية, وأوروبا التي تدعوها تجارب الماضي القريب ودوافع المصالح الراسخة إلى الاستفادة من هذا التشكل دون التماهي مع المشاريع الأمريكية التي ربما حاولت أمريكا إقناعها دوما بأنها مشاريعها .