ساركوزى وديجولية من طراز جديد خالد السرجاني المتابع للتطورات السياسية التي تشهدها الساحة الدولية سيلاحظ من دون عناء الدور الذي يلعبه الرئيس الفرنسي نيكولا ساراكوزى، سواء فيما يتعلق بالسعي لإدماج سوريا في النظام الدولي أو السعي للعب دور فيما يتعلق بالوساطة فيما بينها وبين إسرائيل أو ما يتعلق بجهوده في ملف الأزمة بين روسيا وجورجيا، أو على صعيد الدور الذي يلعبه من اجل تأمين عدم متابعة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس السوداني عمر حسن البشير مقابل تسليم السودان لمطلوبين من هذه المحكمة.
وهناك وجهات نظر متعددة حول هذا الدور الفرنسي الجديد تتنوع بين أنها تعبير عن الاستقلال الأوروبي عن الولاياتالمتحدة الأميركية وان فرنسا تقوم بدور رأس الحربة في عملية تنفيذ هذا الدور الأوروبي الجديد، وبين أن فرنسا تلعب هذا الدور بتكليف من الولاياتالمتحدة المنشغلة بقضايا أخرى خارجية على رأسها العراق وأفغانستان .
وأنها لا تريد أن تؤثر هذه القضايا على ملفات أخرى ترى أنها تتداخل معها ومن الممكن أن تتدخل دول أخرى من اجل إحباط مواقف الولاياتالمتحدة بسبب تداخلها مع ملفات أخرى تهم هذه الدول، وبين أن ساركوزي الذي تتراجع شعبيته في الداخل الفرنسي حسبما تؤكد استطلاعات الرأي التي تؤكد عدم رضاء المواطن الفرنسي عن سياساته الداخلية يعوض هذا الفشل والتراجع بلعب دور خارجي نشط عل ذلك يساهم في تحسين صورته في الداخل الفرنسي.
ويكفى للتدليل على ما نقول أن نشير إلى نتائج أحد استطلاعات الرؤى نشر بعد مرور عام على رئاسة ساركوزي أجراه معهد ايفوب فيديوكال ونشرت نتائجه مجلة باري ماتش الأسبوعية الموالية لساركوزي، فقد أعرب 72 في المائة من المشاركين فيه عن عدم رضائهم عن أداء ساركوزي في الحكم.
وتضع هذه النتائج ساركوزي في مصاف اقل الرؤساء الفرنسيين شعبية على الإطلاق في مثل هذه المرحلة من حكمه في فترة ما بعد الحرب. وفي نفس الاستطلاع وصف 17 في المئة فقط ساركوزي بأنه أفضل من الرؤساء السابقين ومنهم جاك شيراك الذي طالما استخدم ساركوزي فترة حكمه الباهتة للتدليل على أخطاء فرنسا وطبقتها الحاكمة.
واتجاه ساركوزى لتعديل السياسة الخارجية الفرنسية بدا مع توليه منصبه، حيث ابتعد عن سياسة سلفه الرئيس السابق جاك شيراك خاصة فيما يتعلق بالابتعاد عن السياسة الأميركية، وبدا ساركوزي في الاقتراب أكثر من هذه السياسية، وبدأ ساركوزي مسيرته بحماس واضح لتغيير خطوط الدبلوماسية الفرنسية التي كانت عليها باريس في عهد سلفه، فقد كان سيد الاليزيه الجديد يطمح إلى ترميم العلاقات مع واشنطن وتحريك مسار الاتحاد الأوروبي بعد أن أصابه الركود عقب فشل مسودة الدستور الموحد.
لكن طريقة ساركوزي في إدارة السياسة الخارجية وحبه للظهور لم تعجب البعض من الأوروبيين، فقد حدثت خلافات مع الشركاء الأوروبيين مثلا مع ألمانيا، اقرب الأصدقاء لفرنسا في عهد كل من الرئيسين السابقين ميتران وشيراك، حول عدة موضوعات منها مشروع الاتحاد المتوسطي وحدود سلطات البنك المركزي الأوروبي.
ومن ابرز سمات دبلوماسية ساركوزي زياراته الخارجية المكوكية التي اتهمه فيها بعض المراقبين بأنه يلعب فيها دور مسئول المبيعات للشركات الفرنسية الذي يسعى إلى جلب عقود لها بالمليارات في كل من الصين وليبيا ودول الخليج العربي. وفي هذا السياق اتهم ساركوزي من قبل منظمات حقوقية كبرى بالتخلي عن دبلوماسية حقوق الإنسان لصالح دبلوماسية دفتر الشيكات.
وقد قال ساركوزي حين انتخب رئيساً لفرنسا إنه يريد إعادة بناء التحالف الفرنسي الأميركي، وإنهاء ما سماها المشاعر العقيمة لمعاداة الولاياتالمتحدة التي ميزت السياسة السابقة. وفي هذا السياق، اقترح ساركوزي عودة فرنسية إلى مشاركة كاملة في «الناتو»؛ برنار كوشنر وزيراً للخارجية.
والذي يعد أول من قال إن السيادة الوطنية ينبغي ألا تكون عقبة أمام عمليات الإغاثة الإنسانية، وإنه ينبغي أن يكون للدول والمنظمات الدولية حق التدخل في البلدان حيث تُرتكب أعمال وحشية أو جرائم، أو تسود اللامبالاة تجاه المعاناة الإنسانية، والتي كانت بطبيعة الحال من بين المبررات التي سيقت لتعليل غزو العراق أصلاً، الذي أيده كوشنر على الأقل في البداية.
ولكن من يتابع السياسة الخارجية لساركوزي في الفترة الأخيرة سيلاحظ انها لم تسر وفق هذه التصورات حيث سار ساركوزي في منطقة وسط بين الاستقلال التام عن السياسة الخارجية الفرنسية وهو ما يطلق عليه مسمى الديجولية التي طبعت وسيطرت على السياسة الخارجية الفرنسية منذ منتصف ستينات القرن الماضي وحتى الآن، وبين الانحياز التام إلى الولاياتالمتحدة،.
وهو نهج نستطيع أن نطلق عليه مسمى الديجولية الجديدة، حيث يسعى الرئيس الفرنسي أن يضفى طابعه الخاص على السياسة الخارجية لبلاده ولكن من دون إحداث تحول درامي فيها لأنه يبدو أن سعى لهذا التحول الدرامي ولكن لم يستطع في بداية الأمر بسبب تعقيدات السياسة الداخلية لبلاده وبسبب استقرار المؤسسات التي تلعب دورا في تخطيط هذه السياسة وتنفيذ السياسة الخارجية. عن صحيفة البيان الاماراتية 30/9/2008