أوسلو بين الإنجاز والإحباط حمادة فراعنة لم أجد وصفاً أدق من تعبير الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لاتفاق أوسلو قوله: "أنه أفضل اتفاق يمكن التوصل اليه في أسوأ الظروف". ولذلك علينا ادراك هذه الظروف السيئة التي أعطت هذا الاتفاق، وقراءة موازين القوى التي فرضت مثل هكذا اتفاق. وبداية علينا التسليم بواقع التحالف الأميركي الاسرائيلي كحقيقة سياسية قوية راسخة لها حضورها وتأثيرها ويتم توظيفها لمصلحة المشروع التوسعي الاستعماري الاسرائيلي، على أرض بلادنا، وأهمية هذا التحالف ليس فقط لأنه بين طرفين يملك الأول النفوذ الأقوى عالمياً ويملك الثاني تفوقاً إقليمياً على كافة الأطراف العربية، بل لأنه يدخل في صلب مكونات السياسة الداخلية الأميركية، من خلال امتلاك اسرائيل لعوامل التأثير على الإعلام والمال والأصوات الانتخابية المؤثرة على نتائج انتخابات الكونغرس والرئيس وحكام الولايات، ولذلك يتحكم اللوبي الاسرائيلي بمكونات هذه العملية ويؤثر على نتائجها ويساهم في صناعة افرازاتها وقياداتها، ولهذا يرجح المراقبون قوة العامل الاسرائيلي بسبب كونه عاملاً داخلياً في مكونات وصنع السياسة الأميركية، وهنا يكمن سبب وتفسير قوة الدفع والدعم الاميركي لإسرائيل وتأثير ذلك على السياسة والتعامل الأميركي مع القضية الفلسطينية، وعلينا قراءة المحاولات والمشاريع الأميركية لتسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي على أنها مكرسة لخدمة المشروع الاستعماري الاسرائيلي التوسعي والحفاظ عليه وحمايته، وبما يتعارض مع قانونية وحقوق الشعب الفلسطيني وعدالة مطالبه وبما يتناقض مع قرارات الأممالمتحدة التي شاركت واشنطن في صياغتها والتصويت عليها بدءاً من قرار التقسيم 181 الصادر يوم 15/11/1947 وعودة اللاجئين 194 والانسحاب 242 والدولتين 1397 وانتهاء بقرار خارطة الطريق 1515 الصادر في 19/11/2003. مع نهاية عام 1989، سلم الاتحاد السوفييتي بفشله وهزيمته في الحرب الباردة في مواجهة الولاياتالمتحدة، سواء بسباق التسلح أو المباراة الاقتصادية أو الحرب الأيديولوجية بين الاشتراكية والرأسمالية، أو بسبب حماقته في احتلال أفغانستان التي استنزفت ما تبقى لدى الاتحاد السوفييتي من موارد سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية، فكانت نتيجة الحرب الباردة، بين المعسكرين، هزيمة الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفييتي، حيث شكل ذلك هزيمة للعرب وللفلسطينيين لأنهم بهذه الهزيمة فقدوا صديقاً قوياً داعماً لهم، وفقدوا حالة التوازن في السياسة الدولية، وبانتصار الولاياتالمتحدة المنحازة لاسرائيل، قدم لها دعماً اضافياً، وباستفراد السياسة والرؤية الأميركية في معالجة القضايا الدولية والمحلية والاقليمية ومن ضمنها وفي طليعتها القضية الفلسطينية. وفي شهر آب 1990، ارتكب العراق غلطته الاستراتيجية باجتياح الكويت، بعد سنتين فقط من توقف الحرب العراقية الايرانية في 20/8/1988، ذلك الاجتياح الذي أدى إلى: 1- تدمير قدرات العراق العسكرية. 2- تدمير قدرات العرب الخليجيين المالية. 3- ارتهان النفط العربي للإرادة الأميركية، بعد أن تم توظيفه لمصلحة العرب في حرب 1973. اجتياح العراق للكويت، دمر الدور العراقي وأفقد التماسك والتضامن العربي وفتح البوابة للتدخل الاجنبي وجلب القوات الاجنبية الغازية لبلادنا ومنطقتنا، وأربك العرب وخلط الأوراق وغابت الأولويات عن طاولة وعقل صناع القرار العربي ولم تعد القضية الفلسطينية، هي القضية المركزية، بل بات الخليج العربي بما لديه من ثروات ومخاوف وسياسات هو مركز الاهتمام وتراجع دور ومكانة القضية الفلسطينية كجامعة لقرارات القمم العربية وبات التخلص منها ومن أعبائها أحد أسباب ضعفها العربي والدولي. لم تكن هذه النتائج، نتائج هزيمة الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفييتي، ونتائج هزيمة العراق وتدميره وفرض الحصار عليه، بعيدة عن اهتمامات جورج بوش الأب، الذي سارع بعد أسبوع فقط من توقف الهجوم الأميركي الدولي على العراق ليعلن مبادرته في خطابه أمام الكونغرس في 7/3/1991، لتسوية النزاع الفلسطيني الاسرائيلي والدعوة لعقد مؤتمر مدريد في 30/10/1991. لقد ذهب العرب إلى مدريد وهم يعانون من وجع الهزائم والضعف والاستنزاف، العسكري والمالي، فقد دمرت الحروب الثلاثة قدرات الخليجيين المالية، سواء حرب أفغانستان لمواجهة السوفييت، أو الحرب العراقية الايرانية، أو الحرب الأميركية على العراق، فقد موّل الخليجيون أغلبية تكاليف هذه الحروب بضغط وطلب أميركي، ولذلك فقدت منظمة التحرير احدى أهم روافعها المادية القادرة على توفير متطلبات الصمود الفلسطيني في وجه الاحتلال والاستيطان الاسرائيلي. كما أن الانتفاضة الفلسطينية 1987 وصلت إلى ذروة متاعبها، منذ بداية التسعينات بعد أن فقدت حليفاً دولياً مهماً بفقدان الاتحاد السوفييتي مع نهاية الحرب الباردة، وفقدت عمقها القومي بحروب الخليج العربي المتكررة والتي أدت إلى تجفيف الموارد المالية عن الفلسطينيين. في ظل هذه المعطيات، وانسداد الأفق في مفاوضات واشنطن المنبثقة عن مؤتمر مدريد، فتح الفلسطينيون مع الاسرائيليين مفاوضات أوسلو غير العلنية في شهر كانون ثاني 1993، وانتهت في 18/8/1993، بتوقيع مسودة اتفاق، وتوقيع رسائل الاعتراف المتبادل بين اسحق رابين وياسر عرفات في 9/9/1993، ليشهد العالم في ساحة البيت الأبيض توقيع اتفاق أوسلو في 13/9/1993. في اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني في تونس، الذي أقر اتفاق أوسلو، انبرى أغلبية الأعضاء توجيه انتقاداتهم لمضمون الاتفاق، خاصة بعد أن أعلن أبو مازن أمام المجتمعين "أن الاتفاق سيفتح الباب أمام احتمالين إما الوصول إلى الحرية والاستقلال أو سيؤدي إلى تكريس الاحتلال، والذي سيحدد انتصار أو فشل أحد الاحتمالين هو الأداء الفلسطيني خلال المرحلة الانتقالية"، كان تعليق أبو عمار الذي استمع إلى جميع الأعضاء المتحدثين وانتقاداتهم، بقوله "إن الاتفاق يتضمن ما هو أسوأ من كل ملاحظاتكم، ولكنه أفضل اتفاق يمكن التوصل اليه في مثل هذه الظروف السيئة التي نواجهها ونعاني منها وندفع ثمنها". اتفاق أوسلو شكل محطة تاريخية هامة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ونقله نوعية في مسار نضاله فقد حقق الاتفاق مجموعة من العوامل الهامة تتمثل بما يلي: أولاً: الاعتراف الأميركي الاسرائيلي بوجود شعب يدعى الشعب الفلسطيني مقيم على أرضه الوطنية فلسطين. ثانياً: الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً لهذا الشعب. ثالثاً: ولادة سلطة وطنية ومؤسسات لهذا الشعب وهي بمثابة مشروع دولة، والدولة في نظر القانون الدولي ثلاثة عوامل هي أرض وشعب وسيادة، ومن هنا تكمن أهمية سلسلة الاعترافات والخطوات التدريجية التي تحققت في اتفاق أوسلو التدريجي المتعدد المراحل، حينما توفرت الأرض والاعتراف بالشعب وجرى التفاوض على تثبيت السيادة وتوسيعها تدريجياً عبر سلسلة الانسحابات الاسرائيلية عن المدن الفلسطينية. لقد عاد بعد توقيع الاتفاق مع الرئيس الراحل عرفات ومؤسسات منظمة التحرير خلال الفترة الواقعة ما بين 1994 و 1999 أكثر من ثلاثمائة ألف فلسطيني إلى الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967. لقد نقل أوسلو معركة الشعب الفلسطيني من المنفى إلى الوطن، فباتت الحركة الوطنية الفلسطينية برأسها وقواعدها وشعبها على أرض الوطن، في مواجهة العدو والاحتلال والاستيطان، وتحول الفلسطينيون في المنفى والشتات إلى دور الداعم والمساند لشعبهم على أرض وطنه وبات دورهم ثانوياً بعد أن كانوا في السابق هم رأس الحربة في عمليات المواجهة للمشروع الاسرائيلي، فأصبح الداخل بكل محتوياته هو طليعة التصدي للاحتلال ومؤسساته. قبل أوسلو كان الصراع فلسطينياً أردنياً، وفلسطينياً سورياً، وفلسطينياً لبنانياً، بصرف النظر عن أسباب ومنطقية هذا الصراع ومن يتحمل مسؤوليته، ولكنه كان صراعاً بين الشقيق وشقيقه وبين الصديق وصديقه، ولكنه بعد أوسلو أصبح صراعاً وطنياً واضحاً بين الشعب الفلسطيني وعدوه، والشعب الفلسطيني لا عدو له سوى عدوه الذي يحتل أرضه ويصادر حقوقه وينتهك كرامته، وهذا وفر مظلة واسعة لإعادة تعميق وتوسيع التعاطف العربي والاسلامي والدولي مع عدالة المطالب الفلسطينية وشرعية نضالها. الفلسطينيون بعد أوسلو كانوا على أبواب الدولة المستقلة، ولكن عمليات "حماس" الاستشهادية ضد المدنيين الاسرائيليين في مناطق الاحتلال الأولى عام 1948 ونجاح اليمين الاسرائيلي بقيادة نتنياهو وشارون، هو الذي أحبط الاتفاق وعطله وأعاد الصراع إلى المربع الأول وأخر خطوات انتزاع الاستقلال التدريجي المتعدد المراحل. عن صحيفة الايام الفلسطينية 7/10/2007