التقت أطراف ما سمي بعملية السلام في واشنطن بدعوة من الرئيس الأمريكي أوباما، وفي ذهن كل طرف أجندته الخاصة. فأوباما يريد تحقيق أي إنجاز سياسي يساعده في انتخابات الكونجرس في نوفمبر المقبل بعد أن تدهورت شعبيته نتيجة فشله في الحرب والاقتصاد.
ونتنياهو يريد إيهام الجميع بأنه يسعي فعلاً للسلام مع الفلسطينيين بهذه المفاوضات العبثية حتي يستكمل الاستيلاء علي باقي الأرض الفلسطينية في الضفة ولا يعرض حكومته الائتلافية المتطرفة للسقوط.
ومحمود عباس الذي فقد كل حق في تمثيل الفلسطينيين منذ انتهاء ولايته في يناير 2009 يريد القيام بأي عمل يؤمر به لعله يحقق أي إنجاز.
أما الضيفان المعتدلان اللذان حضرا فلم يكونا يملكان رفض الرغبة الأمريكية خاصة وفي يد أمريكا العديد من كروت الضغط عليهما مثل التلويح بورقة الديمقراطية والتهديد بمعارضة التوريث وإيقاف المعونات وغير ذلك من أساليب الضغط .
وقد وصف الكاتب الإسرائيلي اليساري الشهير أوري أفنيري هذه المفاوضات العبثية بحرفية الجراح الماهر في مقاله الأسبوعي علي موقعه بتاريخ 9/15 شارحاً الفرق بين هذه المفاوضات العبثية وبين مفاوضات تهدف إلي توقيع اتفاق سلام حقيقي.
يقول أفنيري: هناك قصة عن الرجل الذي كتب وصيته بتقسيم تركته بين الورثة والأصدقاء وحتي الخدم بالعدل والسخاء ثم كتب في آخر الوصية أنه عند وفاته تصبح هذه الوصية لاغية.
وأعتقد أن هذه الفقرة ستضاف لأي إطار اتفاق يصل له المتفاوضون والذي وعد نتنياهو بتوقيعه خلال عام مع السلطة الفلسطينية وبمباركة من أوباما.
ففي نهاية العام سيكون هناك "اتفاق إطار" كامل يغطي كل النقاط من إنشاء دولة فلسطينية بحدود داخل الخط الأخضر وتقسيم القدس إلي عاصمتين وإجراءات الأمن والمستوطنات واللاجئين وتقسيم المياه وكل شيء.
وعندئذ، وفي عشية يوم التوقيع في حديقة البيت الأبيض سيطلب نتنياهو إضافة فقرة للاتفاق نصها "عند بدء مفاوضات الوصول لاتفاق سلام دائم يعتبر اتفاق الإطار هذا لاغياً".
ف " اتفاق إطار" ليس معاهدة سلام بل عكسها تماماً، فمعاهدة السلام هي اتفاق نهائي يتضمن كل التفاصيل والتنازلات المتبادلة من خلال المفاوضات المرهقة. فلن يكون أي من الطرفين سعيداً تماماً بالنتائج ولكنه سيشعر أن أمكن الوصول له يمكنه التعايش معه.
وبعد التوقيع سيأتي وقت التنفيذ. وحيث إن كل التفاصيل قد وردت في معاهدة السلام فلن يكون هناك مجال للخلاف الذي إن ثار بالنسبة لبعض التفاصيل الفرعية فسيحسمه الحكم الأمريكي بين الطرفين.
أما "إطار اتفاق السلام"المزمع عقده بعد عام فعلي العكس تماماً، فهو يترك كل التفاصيل مفتوحة وكل فقرة فيه تسمح بالعديد من التفاسير حيث يعبر الاتفاق الإطار فوق الخلافات الحيوية تاركاً إياها لمفاوضات معاهدة السلام، وقد يقول البعض إن "اتفاق الإطار" هو مقدمة للمفاوضات الحقيقية والمعبر الموصل لمعاهدة السلام.
فلو تم الوصول ل " اتفاق إطار " خلال عام فإن المفاوضات الحقيقية للمعاهدة النهائية للسلام قد تستمر خمسة أو عشرة أعوام أو حتي مائة عام، واسألوا اسحق شامير عن هذا! كيف عرفت أنا ذلك؟
لقد شاهدنا هذه المسرحية من قبل، ف" إعلان المبادئ" في أوسلو الذي تم توقيعه منذ 17 سنة كان " اتفاق إطار" كالمزمع عقده اليوم، وقد سمي وقتها " اتفاقاً تاريخياً"، وكان ذلك صحيحاً من ناحية.
فلأول مرة يعترف رئيس حركة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل. ولأول مرة يعترف رئيس وزراء إسرائيل بأن هناك شعباً فلسطينياً له حركة تحرير وطنية.
وجدير بالذكر هنا أن اتفاق أوسلو تم توقيعه خلف ظهر الأمريكيين مثله في ذلك مثل زيارة السادات للقدس 1977، فكلا الحدثين تم دون اشتراك أمريكي.
وقد دخلت أمريكا الساحة في الحالتين بعد أن أصبح الحدث حقيقة واقعة، فماذا حدث بعد توقيع الطرفين علي "اتفاق" أوسلو 1993، بدأت المفاوضات عن كل التفاصيل والخلافات عن كل جزئية.
فمثلاً نص الاتفاق علي فتح أربعة معابر أمن بين قطاع غزة والضفة الغربية، ونفذت إسرائيل هذه المعابر وأقامت علامات الطريق المكتوبة بثلاث لغات، لكن هذه المعابر لم تفتح أبداً لمرور الفلسطينيين!!
مثال آخر، بعد مفاوضات مطولة تم تقسيم الضفة الغربية إلي ثلاث مناطق: أ، ب، ج، وتم تسليم المنطقة " أ" للسلطة الفلسطينية التي أنشئت طبقاً للاتفاق، وكان الجيش الإسرائيلي يغزو هذه المنطقة من آن لآخر. أما المنطقة "ب" فكانت رسمياً تحت السلطة الفلسطينية، ولكن كانت إسرائيل تحكمها عملياً.
أما المنطقة " ج " التي كانت أكبر المناطق الثلاث فظلت تحت السيادة المطلقة لإسرائيل التي كانت تفعل بها ما تريد من حيث مصادرة الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات والحوائط العازلة وفتح طرق لمرور اليهود فقط، وفضلاً عن ذلك أعلنت إسرائيل أنها ستنسحب منها علي ثلاث مراحل تم تنفيذ الأولي والثانية تقريباً، أما الثالثة وهي الأهم فلم تبدأ أبداً.
كانت بعض بنود الاتفاق تقود للغش الصريح، فمثلاً لم يتم الاتفاق علي اللقب الرسمي لياسر عرفات، هل يسمي " رئيس السلطة " كما تريد إسرائيل أم " الرئيس " أي رئيس دولة كما يريد الفلسطينيون؟، واستقر الرأي علي تسميته " الريس" وهو تعبير عربي يصلح لرئيس السلطة أو رئيس الدولة.
وفي الأسبوع الماضي نادي نتنياهو محمود عباس بلفظ "الرئيس عباس". ومثال ثالث بالنسبة لجوازات سفر الفلسطينيين، أصرت إسرائيل علي أن تكون مجرد " مستندات سفر" ، وطالب الفلسطينيون بأن تكون "جوازات سفر" مثلما تصدره كل الدول.
واتفق الطرفان في النهاية علي أن يختم أعلي الوثيقة بلفظة " مستند سفر" ويختم أسفلها بلفظة " جواز سفر". كما وافقت إسرائيل علي قيام " سلطة فلسطينية" ولكن الفلسطينيين أرادوا تسميتها " السلطة الوطنية الفلسطينية" ، فرفضت إسرائيل ذلك.
وعندما طبع الفلسطينيون طوابع بريدهم باللفظ الذي أرادوه بالمخالفة للاتفاق اضطرتهم إسرائيل إلي سحبه وإلغاء لفظة "الوطنية" من الطابع.
وطبقاً لاتفاق أوسلو فإن المفاوضات بشأن النقط الجوهرية مثل الحدود والقدس واللاجئين والمستوطنات كان مفروضاً أن تبدأ 1994 وتنتهي بمعاهدة سلام دائمة خلال خمس سنوات، ولكن هذه المفاوضات لم تنته 1999 كما ينص اتفاق أوسلو لأنها لم تبدأ أصلاً!
لماذا كان الأمر كذلك، ببساطة لأنه في غيبة معاهدة سلام نهائي فإن النزاع يستمر بشراسة، فقد أقامت إسرائيل المستوطنات بسرعة فائقة فوق الأرض الفلسطينية لتخلق حقائق علي الأرض قبل بدء المفاوضات الحقيقية.
وبدأ الفلسطينيون هجمات عنيفة لدفع إسرائيل للإسراع في انسحابها من أراضيهم. من كل ذلك نري أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وهكذا تحول كل تفصيل إلي لغم في طريق السلام.
وهذه هي طبيعة "اتفاقات الإطار" فهي تسمح بالتفاوض علي كل تفصيل مرة بعد أخري، وكل مرة يبدأ المفاوض الإسرائيلي من البداية، وكل " تنازل " يعيد تقديمه للفلسطينيين يتلقي عليه ثمناً باهظاً.
هل معني ذلك أن " اتفاق الإطار" عديم القيمة؟ لا أظن ذلك، ففي الدبلوماسية فإن إعلانات المبادئ مهمة حتي لو لم تنفذ بسرعة، فالكلمة التي تصدر لا يمكن اعتبار أنها لم تصدر كما لا يمكن إعادة العفريت إلي داخل الزجاجة.
فعندما تعترف إسرائيل بالشعب الفلسطيني فإن الدعاية الصهيونية للمائة عام الماضية بأنه لا يوجد شعب فلسطيني تكون قد سقطت نهائياً، وعندما اعترف الفلسطينيون بوجود دولة إسرائيلية فقد حدثت ثورة في الفكر العربي لا يمكن إعادتها للخلف.
وعندما يعترف زعيم اليمين الإسرائيلي أمام العالم بمبدأ قيام دولتين لشعبين فإنه لا يستطيع التراجع في ذلك حتي لو كان لا يعني ما قاله، فقد أصبح الأمر حقيقة سياسية لا تستطيع أي حكومة إسرائيلية مستقبلة إغفالها.
ولكن وكما أوضحنا الفرق بين "اتفاق الإطار" وبين معاهدة السلام، فحتي لو وقع نتنياهو " اتفاق إطار" بعد عام بقيام دولة فلسطينية بحدود 4 يونيو 1967، وهو ما نشك جداً في أن يفعله - فليس معني ذلك أن تقوم هذه الدولة.
فسيكون أمام إسرائيل عشرات السنين من الدبلوماسية والمفاوضات علي التفاصيل ولذلك أكرر في النهاية أنه إذا كانت الأطراف جادة في الوصول للسلام فعليها أن تتفاوض الآن وفوراً علي معاهدة سلام نهائي دائم وليس علي " إطار اتفاق ". فالشيطان يكمن في التفاصيل، أما الدائم والصحيح فمكانه معاهدة السلام.
وإلي هنا ينتهي عرض أفنيري عما يجري علي الساحة باسم السلام، ربما للمرة المائة، نهديه لأطراف اللعبة وندعو الله أن يخيب ظن كل طرف فيها حضر وبيده أجندة خاصة لهذه التمثيلية.
*كاتب من مصر عضو الهيئة العليا لحزب الوفد جريدة الوفد