هل فات أوان التقسيم في العراق؟ خيرالله خيرالله ليس مستغربا أن يصوت مجلس الشيوخ الأمريكي بأكثرية خمسة وسبعين صوتاً ضد ثلاثة وعشرين علي قرار غير ملزم للإدارة يدعو الي تقسيم العراق الي ثلاثة كيانات. لا يعود مثل هذا الأمر مستغرباً في ضوء ما آلت إليه الأمور في هذا البلد العربي سابقاً. أكثر من ذلك، يمكن القول، في ضوء التدهور الذي يشهده العراق، أن طرح موضوع التقسيم ظاهرة صحية في حال كان البلد قابلا للتقسيم... وفي حال كان التقسيم يوقف الحرب الأهلية التي تدور رحاها في معظم الأراضي العراقية. ما نشهده الآن هو أنه حيث لا حرب أهلية في العراق، هناك توتر مع الخارج كما الحال في المنطقة الكردية التي تتعرض لقصف مدفعي مصدره إيران أو لتهديدات تركية بملاحقة المتمردين الذين ينفذون عمليات في أراضيها ثم يلجأون الي جبال كردستان. وهذه الجبال وعرة في طبيعتها يصعب علي الجيوش السيطرة عليها، فكيف يطلب الاتراك ذلك من جيش مثل الجيش العراقي لا يزال قيد الانشاء أو من القوات التابعة لأقليم كردستان التي هي أقرب الي الميليشات من أي شيء آخر؟ يبدو واضحا أن تركيا تطلبالمستحيل من جار لم يعد لديه من يستطيع اتخاذ قرارات كبيرة من نوع اعطاء الجيش التركي حق ملاحقة متمردين داخل الأراضي العراقية كما كان يحصل أيام صدّم حسين. ليس عيبا الحديث عن التقسيم ولكن هل يصلح التقسيم علاجا لمشاكل العراق، أم فات أوانه بعدما فشل الأمريكيون في ادارة مرحلة ما بعد الاحتلال واسقاط النظام وعملوا كل ما يمكن عمله من أجل جعل العراق بلدا فاقد الهوية من جهة وغير قابل للحياة من جهة أخري في أي محاولة للاجابة عن مثل هذا السؤال، لا بدّ من الاشارة أولا الي أن الأمريكيين لم يستبعدوا في أي وقت تقسيم العراق وذلك تحت شعار عام يتحمل الكثير من الغموض هو الفيديرالية. وعلي من يريد التأكد من ذلك، العودة الي المؤتمر الذي عقدته المعارضة العراقية في لندن في ديسمبر - كانون الأول من العام 2002 ، برعاية أمريكية مباشرة وإيرانية غير مباشرة، لاكتشاف أن تقسيم العراق كان مطروحا منذ ما قبل الاحتلال الأمريكي للبلد. في مؤتمر لندن الذي تمثلت فيه المعارضة العراقية بشقيها الكردي والشيعي خصوصا، طُرح موضوعان أساسيان هما الاقرار ب "الأكثرية الشيعية" في العراق بما يرضي ايران، وبالصيغة "الفيديرالية" بما يرضي الأكراد. لم يحضر الشيعة الي المؤتمر الذي دعا إليه الأمريكيون إلاّ بعدما دفعتهم إيران الي ذلك دفعا. وتمثل "المجلس الأعلي للثورة الأسلامية" وقتذاك بالسيد عبدالعزيز الحكيم الذي أتي الي لندن من طهران مباشرة مع مجموعة كبيرة من زعماء المعارضة العراقية علي رأسهم السيد أحمد الجلبي. ولعب الجلبي دور الوسيط بين الأمريكيين والإيرانيين ونجح في ذلك الي حد فاق كل التوقعات، بما في ذلك توقعات شخصه الكريم، إذ نفّذ له الإيرانيون كل رغباته بجعلهم ممثلي الأحزاب الشيعية الذين حضروا الي لندن يمتثلون لكل ما أراده الأمريكيون. وبذلك كان مؤتمر لندن بما خرج به المؤتمر الأول من نوعه في تاريخ العراق الحديث الذي تقر فيه أحزاب عراقية بوجود "أكثرية شيعية" من جهة وبمبدأ "الفيديرالية" من دون تحديد واضح لهذا المفهوم من جهة أخري. وكان غياب التحديد الواضح لمفهوم الفيديرالية وترك الأمور غامضة بمثابة أشارة مقصودة موجهة الي الاكراد فحواها أنه سيكون في استطاعتهم أن يقيموا يوما دولة خاصة بهم متي ستسمح الظروف الأقليمية بذلك. انطلاقاً من هذه المعطيات، يتبين أن فكرة تقسيم العراق لم تكن بنت ساعتها ولم تطفو علي السطح بشكل مفاجئ في السنة 2007. علي العكس من ذلك، طرحت الفكرة قبل الاحتلال الأمريكي لهذا البلد وكان البيان الصادر عن مؤتمر لندن الدليل الملموس الأول علي أنّ بذور التقسيم زرعت. كل ما فعله الأمريكيون منذ سقوط نظام صدّام حسين العائلي- البعثي صبّ في مصلحة التقسيم. بل صبّ في ما هو أخطر من التقسيم، أي في اتجاه تفتيت البلد. هذا ما هو مطروح حاليا لا أكثر ولا أقل، وكل الكلام والشعارات عن رفض التقسيم والتفتيت يظل كلاما وشعارات في غياب حكومة قوية ذات توجهات وطنية عراقية وليس حكومة يغلب التوجه المذهبي علي معظم أعضائها وكأن المطلوب ممارسة الانتقام ولا شيء غير الانتقام من السنة العرب بدل العمل علي استيعابهم. ثمة من يقارن الوضع العراقي الحالي بفترة الحرب الأهلية في لبنان بين العامين 1975 و1990 من القرن الماضي حين كان كلّ من "أمراء الحرب" يسيطر علي منطقة معينة ويتحكم بأهلها وذلك بعدما ضعفت مؤسسات الدولة المركزية ولم تعد قادرة علي بسط سلطتها علي كل الأراضي اللبنانية. وثمة من يقارن الوضع العراقي بما شهدته أفغانستان بعد انتصار "المجاهدين" علي النظام الذي أقامه الاتحاد السوفياتي أثر سحب قواته من هذا البلد في بداية التسعينات من القرن الماضي. وقتذاك، تحول الانتصار علي "الجيش الأحمر" الي نزاع علي السلطة بين "أمراء الحرب" ألأفغان ودخل البلد في حروب داخلية لم تنته ألاّ بسيطرة "طالبان" علي السلطة بدعم باكستاني مباشر وبرضا الادارة الأمريكية التي كانت تبحث عن استقرار من أي نوع كان وبأي ثمن في الأراضي الأفغانية. كانت تريد ذلك كي تستخدم الأراضي الأفغانية في مد أنابيب للنفط والغاز وذلك بغض النظر عن الظلامية التي تمثلها حركة متخلفة مثل "طالبان". كذلك، هناك من يقارن ما يمر به العراق حاليا بمرحلة مرت بها يوغوسلافيا في الثمانينات والتسعينات بعد وفاة الجنرال تيتو في العام 1980. لم تتحمل يوغوسلافيا رحيل الرجل القوي الذي كان ضمانة لاستمرار الدولة المركزية القوية، فتفككت تدريجيا بعد سلسلة من الحروب أدت عمليا الي قيام دول عدة آخرها مونتينيغرو التي أنفصلت عن صربيا حديثاً. ولم يعد بعيدا اليوم الذي تقوم فيه دولة أخري، هي كوسوفو، علي أنقاض يوغوسلافيا القديمة حيث كانت تتعايش مذاهب وطوائف وقوميات مختلفة. هل سيكون مصير العراق علي غرار مصير يوغوسلافيا التي تبين أنها لم تكن سوي دولة مصطنعة وحَدها رجل فيما وراء قيام العراق بشكله الحالي انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولي؟ ما نراه في العراق الآن مزيج من المآسي التي مر ويمر بها لبنان وأفغانستان ويوغوسلافيا وحتي الصومال حيث لم يعد بلد أو دولة منذ العام 1992. ربما كانت مشكلة العراق تكمن في أن التقسيم صعب قبل انتهاء معركة بغداد ذات الخمسة ملايين نسمة والتي يصعب أن تكون عاصمة لكيان تتطلع اليه بعض الأحزاب الشيعية المدعومة من ايران من دون تغيير جذري يطال التركيبة السكانية لعاصمة الرشيد. ستكون هناك بكل بساطة، حاجة الي عمليات تطهير ذات طابع عرقي ومجازر أكثر قساوة ووحشية من تلك التي مرت فيها يوغوسلافيا لاقامة مثل هذا الكيان. في أنتظار الصيغة التي سيستقر عليها الوضع العراقي، لا مفر من الاعتراف بأن ما يحول دون الحرب الأهلية المعلنة بديلا من تلك الدائرة حاليا علي نار هادئة، هو وجود القوات الأمريكية، قوات الاحتلال. مجرد انسحاب الأمريكيين عسكريا وينكشف الوضع العراقي علي حقيقته. الحقيقة في غاية المرارة وتتلخص بأن العراق الذي عرفناه لم يعد قائما وأن الموضوع ليس موضوع تقسيم بمقدار ما أنه مرتبط بسؤال مباشر وصريح هو الآتي: هل في الامكان اعادة تركيب العراق بأي صيغة من الصيغ تؤدي الي حقن مزيد من الدماء أم لا بد من الانتظار لمعرفة كيف ستنتهي معركة بغداد المستمرة منذ ما يزيد علي أربع سنوات؟ الشيء الوحيد الأكيد أن العراق يختلف عن لبنان وأفغانستان ويوغوسلافيا... والصومال بصفة كونه بلدا نفطيا. لن يكون مسموحا لايران او لغير ايران بوضع اليد علي نفط العراق... حتي لو تفتت البلد ولم يعد ممكنا أن تقوم له قيامة! عن صحيفة الراية القطرية 2/10/2007