العراق.. في أزمة الإنتماء والوطنية عدالت عبدالله ربما لم نتأمل أو لم نفكر حتى الآن نحن العراقيين، كما هو مطلوب، في حقيقة مفهوم الإنتماء لاسيما إنتماء الأفراد والجماعات البشرية للأطر السياسية والدولتية التي باتت تشكل للإنسان بعداً من أبعاد ماهيته أو وجهاً من وجوه هويته. وقد يكون غياب النظر أو التعمق الفكري في مثل هذا الأمر المتعلق بعراق اليوم يعود أساساً الى أخذنا للمفردات والمفاهيم كمسلمات معروفة أو متفق عليها بينما الحقيقة هي شيء آخر، أعني هنا أن ثمة الكثير من الظواهر الإنسانية والإجتماعية في حياتنا لم تصبح مفهوماً بعد ولم نستطع تنظيمها نظرياً حتى الآن. أي أنها ماتزال غير مفهومة وغير معروفة بسبب إنعدام تناولها والوقوف عليها برؤية علمية خالصة أو بمقاربة فاحصة وكاشفة أو بنظرة ناقدة تُحقق فيما ليس بمفهوم أو أنه له أكثر من معانٍ ودلالات دون أن ندركها أو ننتبه اليها أو نحسب لها الحساب، كما وعجزنا عن كشف أستراتيجية التلاعب بالمفاهيم ووإخضاعها للإكراهات التسلطية أو النزعات الآيديولوجية أو الهواجس المصالحية والنفعية أو الأهواء الذاتية والإجتهادية. فالإنتماء لأي إطار سياسي ودولتي لن يتحقق بالمفهوم العميق للكلمة إذا ما لم تكن ثمة دوافع ومصالح أو قيم وأفكار تبرر تعلق مجموعة من الأفراد أو الناس بجغرافيا سياسي أو وطن ما. ولا يمكن أن يكون موجوداً إذا ما لم يتحول هذا الإنتماء الى نوع من العلاقة العضوية مع المنتمي اليه والى علامة من علامات وجود عقد من قبيل ما يسمى سوسيولوجياً بالعقد الإجتماعي Social Contract ، الذي يصفه جوهان الثوسوس في كتابه الطريقة السياسية 1603 بأنه علاقة الشعب بالدولة والتي تعتمد على عقد يوقعه الطرفان بعد أن يتفقا على صيغته المحددة لواجباتهم وحقوقهم. وهذه المسألة، أي إنتماء الأفراد والجماعات للأطر السياسية والدولتية، هي مرهونة دوماً بعدة شروط لاغنى عنها حتى يكون الإنتماء أمراً معقولاً ومُبَرّراً، أبرز هذه الشروط :. أولاً: وجود مؤسسات وسلطات دولتية تعبرعن إرادة الأفراد والجماعات البشرية القاطنة في جغرافيا الدولة وتحافظ على مصالحهم وأمنهم وتحميهم من شرور وإعتداءات الأعداء الخارجية والتجاوزات الداخلية دون تمييز. ثانياً: رعاية مفهوم الحقوق والواجبات، الذي يعادل مبدأ المواطنة بأبعاده المختلفة وحيثياته المتعددة، عنيت هنا المبدأ الذي لايمكن، بدون أخذه بالحسبان، أن يتحرك أو يتحقق أي مشروع سياسي ومجتمعي يدعي الإشتغال على قيم الديمقراطية والمساواة في المجتمع، وينوي تحقيق الأمن والأستقرار في البلد. فالمواطنة Citizenship التي جاءت كنتاج للفكر الأغريقي القديم ثم أضحت مفهوماً كونياً، هي، كما وردت في القواميس السياسية، عبارة عن وحدة الإنتماء والولاء من قبل كل المكون السكاني في البلاد على إختلاف تنوعيه العرقي والديني والمذهبي للوطن الذي يحتضنهم وأن تذوب كل خلافاتهم وإختلافاتهم عند حدود المشاركة والتعاون في بناءه وتنميته والحفاظ على العيش المشترك فيه. كما أنها من أهم القيم التي تشكل الإطار القانوني والمعنوي والإنساني لكافة المكونات السوسيولوجية المختلفة وتضمن لهم الحقوق والواجبات بشكل متساوي بعيداً عن التمييزات العنصرية والتفاضلات العرقية والقومية أو الطائفية والدينية. كما أنها بمثابة العمود الفقري لأي نظام ديمقراطي وأي سلم مجتمعي حقيقي يقوم على إحترام الإختلافات الإجتماعية والسياسية والفكرية والقبول بالتعددية والحرية والمساواة. ومن البديهي هنا القول أن الدولة ومؤسساتها هي الجهة الأساسية الكفيلة بتحقيق وتنمية مبدأ المواطنة وتقوية الشعور لدى المواطن بإنتمائه لأطار رسمي ووطني. وإذا مانظرنا، بهذه المعاني، الى حقيقة مفهوم الإنتماء في عراق اليوم، سرعان ما يتجلى لنا أنه مفهوم مُحاط بعدة شروط صارمة يتعذر توفير الكثير منها في ظل واقعنا السياسي والمجتمعي المنقسم والمتدهور، سيما إذا ما تأملنا في الخارطة السياسية والسوسيولوجية للبلد وحدودها وفواصلها التي تحول دون بروز ونشر ثقافة وطنية ومواطنية بين العباد وربوع البلاد، حيث أصبح، مع هذا الواقع المرير. إنتماء أغلب الأفراد والجماعات مقتصراً على عدة إنتماءآت ثانوية؛ طائفية ووقومية، أو دينية وقبلية، لاتمت أي منها بمفهوم الإنتماء الوطني الحقيقي بصلة ولا تشكل إطاراً صالحاً لتمتمع المواطن بحقوقه المدنية والسياسية المشروعة وأداء واجباته التي تمليها عليها المسؤوليات الوطنية، والسبب في ذلك يعود الى الإصطفافات الطائفية والقومية البالية التي ظهرت بفعل الهندسة الأمريكية الفاشلة في إعادة بناء الإجتماع السياسي للعراق من جهة ومن جهة أخرى بفعل الممارسات الخاطئة لمفاهيم الديمقراطية والحرية من جانب العديد من الأحزاب والتيارات السياسية العراقية وإنعكاس ذلك على مؤسسات الدولة والمسؤولين والعاملين فيها وبالتالي على كافة المفاهيم والقيم السياسية والمجتمعية. كما نستنتج أيضاً أن الإنتماء الى الوطن والدولة تقهقر الى درجة كبيرة يشعر معه المراقب والمتتبع للحالة العراقية بأن أغلب شرائح المجتمع فقدت هذا الإنتماء وطابعه المدني الحضاري وبدأت تبحث عن الأطر الطائفية والقومية الضيقة حتى تؤمّن لها بقاءها والحفاظ على حقوقها بل قسطها في الحياة والوجود حتى وإن كان ثمن هذا البقاء والحفاظ على هذه الحقوق مرهوناً بسفك دماء أبناء الوطن والنظر اليهم بنظرة طائفية إنغلاقية/عدائية كما تجسدت ذلك في العديد من المناطق العراقية من خلال عمليات التطهير الطائفي والمذهبي التي مارستها قوى وتيارات طائفية بحق العراقيين. وهذه الواقعة التي نتذمر منها وتؤلم كل من يتطلع الى حياة ديمقراطية قويمة غير ماهي سائدة، تدعوا جميع العراقيين الى مراجعة الذات نقدياً والتحاور بين القوى السياسية الإجتماعية ثانيةً والإجتماع حول القيم الحداثية المتجاوزة لهذه الظاهرة الإستقطابية البالية والإتفاق على آليات وطنية تُسهل عملية توزيع السلطة والثروة في البلاد بشكل عادل وتعيد إنتماء وولاء جميع العراقيين الى الوطن والتعامل العقدي مع الدولة. وهنا نتذكر مقولة جميلة ل ناثان هايل التي تفيد بأن الوطنية لاتكفي وحدها ، بل ينبغي لي ألا أضمر حقداً أو مرارة تجاه أي كان، وهذا ما نحن بحاجة اليه بالضبط في عراق اليوم. عن صحيفة الرأي الاردنية 3/9/2008