شتان بين من يتناخى فيحمل روحه على راحة يده، وبضعة دقيق وسكر ومساكن جاهزة وأغطية وملابس أطفال، دافعه الشعور بالارتباط الإنساني مع أهل غزة، وسلاحه الوحيد إرادتة في كسر الحصار، فيستشهد في عرض البحر كي يتضامن مع شعب أعزل محاصر مقهور يموت أطفاله بسبب عدم توفر الغذاء والدواء، وتنهال عليه القنابل الفسفورية لتحرق بقية زرعه وضرعه.
وبين من أرتبط به بصلة الدم والتاريخ والمصير المشترك والدين، وملك الأموال والثروات والسلطات، لكنه آثر الصمت المطبق أو أختار الجرف الاخر ليأكل من لحم أخيه في وليمة الأعداء الممدودة كل يوم على أرض غزة البطلة، بل على عموم أرض فلسطين.
فراح يتضامن مع الاعداء فيبني جدرانا أسمنتية وفولاذية، كي لايدخل الدواء لمرضى أهله والحليب الى أطفال أشقاءه، ويفجر أنفاق الارض التي هي شرايين حياة شعب كامل.
ويوظف كل جهده لخدمة الاعداء في ملاحقة المقاومين، ويتوعد بكسر رجل كل شقيق يطأ أرضه هربا من جور الأعداء .
أنها صورة تراجيدية تكشف بوضوح تام البون الشاسع بين الحق والظلم، وبين حقيقة النفس البشرية التواقة للحرية ونصرة المظلومين حتى من الذين هم خارج الحدود القومية المتعارف عليها والتي تميز مجموعة من البشر .
وبين عبدة البترودولار الذين غادرتهم المفاهيم الإنسانية، فتحجمت بصائرهم وأبصارهم في حدود أرضاء أسيادهم حتى وأن كان على حساب أشقائهم.
كما أنها أسقطت كل المراهنات والمراهنين على جنوح العدو للسلم، الذي بدا أكثر أصرارا من أي وقت مضى على الغطرسة والعنجهية التي مارسها طوال تاريخه، ومعاداة الانسانية بكافة شعوبها.
يدفعه في ذلك اطمئنانه الى استمرار الدعم اللامحدود الذي يتلقاه من القطب الامريكي الاوحد، الذي سخر كل امكانياته المادية والمعنوية في تنمية الصلف الصهيوني، فباتت حتى المنظمات الدولية التي أنشأت لاحقاق الحق ونبذ الباطل والسهر على الامن العالمي والدفاع عن حقوق الشعوب.
مجرد موازين باطلة تكيل للعدو الصهيوني بمعايير تختلف كليا عن معاييرها التي تعتمدها مع القضايا العربية وحقوق الشعب الفلسطيني.
بل إن الكثير من المنظمات الدولية أصبحت حتى عاجزة تماما عن مجرد الإشارة في بياناتها الى الكيان الصهيوني وجرائمه المتكررة، مما يؤكد خضوعها للإرادة الأمريكية، وفقدانها المبررات التي قامت على أساسها .
لكن الجانب الآخر من هذه الصورة المأساوية يكشف لنا بجلاء واضح، بأن العدو الصهيوني قد بات يأكل من جرفه يوما بعد يوم، وأنه بدأ يقضم جسده بأسنانه، وأن أوراق التوت التي جهد الأمريكان والأوروبيون أنفسهم بتغطية عوراته بها طوال عقود من الزمن، لم تعد كافية للتعتيم على حقيقة عدوانيته المتأصلة في كيانه وفي نفوس قادته.
فالشهداء الذين سقطوا على ظهر السفن كان بعضهم من رعايا دول صديقة للكيان الصهيوني، وترتبط معه بعلاقات متينة وأحلاف عسكرية وقدمت وتقدم له الدعم المادي والمعنوي، وليس بينهم من يعادي السامية كما يقولون أو إرهابيا كما يزعمون.
وهي ليست سفنا حربية دكت الشواطئ (الإسرائيلية) مما كشف لشعوب العالم حقيقة هذا الكيان الذي لايراعي حتى مصالح الدول الراعية والمساندة له، والذي لايقيم أي أعتبار لارواح أبنائهم.
فبعد أن قدم الدليل على عدم احترامه للعلاقات الدبلوماسية التي تربطه بعدد من الدول الأوروبية، التي كانت سبب قيام كيانه وولادة وجوده على خارطة العالم، من خلال استغلاله جوازات السفر الصادرة من تلك الدول، ومنحها لعدد من ضباط الموساد للقيام بعملية اغتيال الشهيد محمود المبحوح، التي كشفتها شرطة الإمارات العربية المتحدة.
هاهو يؤكد لهم مرة أخرى في عملية القرصنة الجديدة، على أنه مستعد للذهاب الى أبعد الحدود في اختراق كل المحرمات في العلاقات الدولية والاعتبارات الإنسانية في سبيل الحفاظ على مصالحه .
لقد وفرت العملية الهمجية الصهيونية الأخيرة الفرصة السانحة لقيام ضغط شعبي فعال على الحكومات الاوروبية لتغيير موقفها المساند للكيان الصهيوني، وانخراط الكثير من المنظمات الإنسانية الشعبية في تأييد الحق العربي، وسلطت الاضواء مجددا على معاناة أهلنا في كل المدن الفلسطينية، والحصار الظالم الذي يعانيه شعبنا في غزة.
وأن ساحات التأييد قد أتسعت لتشمل شعوبا وقوى وشخصيات وحكومات، كانت حتى وقت قريب محسوبة على المعسكر المتعاطف مع الكيان الصهيوني.
لذلك لابد من استغلال هذا التأييد وإدامة زخمه من قبل الشعب العربي وقواه الوطنية الحية، والذي من أولى أولوياته هو فضح كل القوى والسلطات التي تدعو الى مايسمى (جبهة الاعتدال) في التعامل مع الكيان الصيوني، وإيقاف مسلسل مد اليد العربية الى العدو والتي قضمها أكثر من مئة مرة.
تحت مسميات حوارات الاديان، والتعاون الاقتصادي والاستثمار والمبادرات العربية السلمية التي لم تقدم للعدو غير أستسلامنا على طبق من ذهب.
كما أن الوقت قد حان للشعب العربي لاظهار فاعليته وأصالته وبيان إمكانياته في دفع أنظمته المتهرئة، أما نحو الانقلاب على الذات وتغيير مواقفهم السلبية من القضايا والحقوق العربية، أو نحو الهاوية والتخلص من عروشهم الخاوية التي تعيق تقدم الأمة.
وبدون ذلك فإن التأييد الشعبي العالمي الحاصل اليوم للحق العربي، قد يكون مرشحا للتبدد والذوبان في حالة استمرار الوضع العربي على حاله، لان الحق لن يكون حقا من دون مطالب به، ومن وجود قوى فاعلة قادرة على نقل القضية العربية الى ساحات العالم الأخرى .
إن دماء الشهداء الأبرياء الذين تضامنوا مع الحق العربي في أسطول الحرية المتجه نحو غزة الباسلة، يجب أن تبقى منارا لكل القوى الحية في الامة في مقاومة الظلم والباطل، سواء كان مصدره عروش سلطاتنا الخاوية أو عروش الظلم العالمي ممثلا بالصهيونية وربيبتها الصهيونية.
وسوف لن نرى من يتضامن معنا بعد اليوم من شعوب العالم الأخرى، أن توانينا عن جعل هذه الدماء أمانة في أعناقنا، وتخلينا عن المسيرة والقضية التي دفع الشهداء أرواحهم من أجلها .