د.بشير موسي نافع سواء في مبادراته في حقل السياسة الخارجية، أو تحركه الجديد للإصلاح الداخلي، يوقع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا خصومه في مأزق تلو الآخر.
الحزب الذي يوصف في إعلام المعارضة الكمالية، القومي المحافظ منها ويسار الوسط، بأنه أصولي الجذور ومصدر تهديد للأسس العلمانية التي ترتكز إليها الدولة، تقود حكومته سياسة تقدمية لم تعرفها تركيا الحديثة منذ إعلان الجمهورية.
من يقف في مواجهة هذه السياسة، من يبذل كل جهد ممكن للحفاظ على الوضع الراهن، هي القوى التي ادعت دائماً أنها الحارس لتركيا الحديثة، ولانتماء تركيا للعالم 'المتحضر'.
وهذه، على أية حال، لم تعد سمة تركية خاصة، بل تكاد تكون حالة نموذجية للانقسام والتدافع السياسي في أغلب بلدان المشرق.
شهدت تركيا خلال الأيام القليلة الماضية تطورين بالغي الأهمية، يتعلق أحدهما بحقل العلاقات الخارجية والآخر بمطلب الإصلاح الداخلي. تمثل التطور الأول في زيارة رئيس الوزراء التركي التاريخية للعاصمة اليونانية أثينا.
العلاقات بين تركيا واليونان مثقلة بعبء التاريخ الطويل، العثماني وما بعد العثماني، وبالقلق والشكوك المتبادلة.
وبالرغم من أن كلا البلدين عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ الخمسينيات، فإن عضوية الحلف المشتركة لم تمنع التنازع (المسلح أحياناً) بينهما على جزر بحر إيجة وفي جزيرة قبرص، المنقسمة منذ عقود بين جانب تركي وآخر يوناني.
وبينما تحتفظ تركيا بواحد من أكبر الجيوش في حلف الناتو، فإن اليونان، التي تنفق خمسة بالمائة من ميزانيتها على التسلح، تعتبر واحدة من أكبر عشر دول في العالم استيراداً للسلاح.
أحد الأسباب الرئيسية لعسكرة البلدين هو بالتأكيد العلاقات الشائكة التي ربطتهما طوال القرن العشرين.
ولدت اليونان في عشرينيات القرن التاسع عشر من حضن الدولة العثمانية، في أجواء ثورة وعنف دموي وتدخل أوروبي وروسي، مؤذنة ببداية تفكك الإمبراطورية التي امتدت على قارات العالم القديم الثلاث.
ومنذ استقلال اليونان وهي تلعب دوراً عدائياً بالغاً ضد الدولة العثمانية في شبه جزيرة البلقان، بما في ذلك مشاركتها في حرب البلقان القاسية وباهظة التكاليف قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بثلاث سنوات.
ولأن المسلمين، أتراكاً ومن أبناء البلاد الأصليين، كانوا جزءاً لا يتجزأ من الحياة البلقانية، فقد أصبحوا، تهجيراً وقتلاً، هدف سلسلة التراجعات المستمرة التي فرضت على الحكم العثماني منذ الثورة اليونانية. وبعد أن كان المسلمون نصف تعداد سكان البلقان، تحولوا اليوم إلى بقايا مجتمعات من الأقليات الصغيرة والمعزولة.
في نهاية الحرب الأولى، وما أن وقعت الدولة العثمانية الاعتراف بالهزيمة في اتفاقية ، حتى بدأت اليونان، بتشجيع من حكومة لويد جورج البريطانية، الاستعداد لغزو الأناضول والسيطرة على المنطقة الغربية منه، تحت راية إعادة بناء اليونان الكبرى.
الاحتلال اليوناني للأناضول، إلى جانب تقسيم ما تبقى من الدولة العثمانية إلى مناطق نفوذ بين الحلفاء، كان القوة الدافعة لانطلاق حرب الاستقلال التركية، التي انتهت بطرد القوى الأجنبية وإعلان الجمهورية التركية تحت قيادة مصطفى كمال.
ولكن حرب الاستقلال لم تنته بدون مأساة أخرى أضيفت إلى سلسلة مآسي العلاقات التركية - اليونانية، عندما انطلقت حركة تبادل هائلة للسكان بين البلدين، اقتلعت ملايين المسيحيين ذوي الأصول البيزنطية من الأناضول وملايين المسلمين من البلقان اليوناني والجزر اليونانية في المتوسط.
لهذه، ولأسباب أخرى لا تقل أهمية، تعتبر زيارة إردوغان لأثينا خطوة تاريخية، لم يكن أحد ليتوقعها قبل سنين قليلة فقط. رئيس وزراء الجمهورية التي قامت على رماد حرب الاستقلال المريرة ضد القوات اليونانية، يصل إلى اليونان ليفتح صفحة جديدة، ويوقع عدداً من الاتفاقيات الاستراتيجية التي تقيم العلاقات بين البلدين على أسس ثابتة ومستديمة.
ثمة مكاسب استراتيجية يمكن أن تحققها تركيا من مثل هذه الخطوة فيما يتعلق بوضعها الأوروبي. هذا أمر لا يمكن تجاهله. ولكن مكاسب اليونان المتوقعة لا تقل عن مكاسب تركيا.
ولذا، فقد استقبل رئيس الحكومة التركية استقبالاً حافلاً في أثينا، في تعبير عن رغبة يونانية لا تقل عن نظيرتها التركية في تجاوز أعباء التاريخ وإطلاق بداية جديدة للعلاقات بين البلدين المتجاورين في البلقان وفي حوض المتوسط. ولعل حكمة وجسارة إردوغان لا يوازيها على هذا الصعيد سوى حكمة وجسارة باباندريو، رئيس الحكومة اليونانية.
ولأن اليونان تعاني واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية / المالية في عالم اليوم، بل ويكاد انهيارها الاقتصادي يجر معه عدداً من دول أوروبا الأخرى، وكل منظومة اليورو، فقد حمل إردوغان معه رسالة تضامن مع اليونانيين، وعشرات رجال الأعمال الأتراك الراغبين في الاستثمار وتعزيز التبادل التجاري والاقتصادي.
بالنظر إلى الصورة التي رسمت لإردوغان وحكومته داخل تركيا وخارجها، لم يكن من المفترض أن يكون إردوغان هو من يأخذ هذه المبادرة.
يعرف الحزب الذي يقوده إردوغان عادة بجذوره الإسلامية، ويوصف تكراراً بحامل التوجهات العثمانية الجديدة، ولم تتوقف بعد التساؤلات حول ما إن كانت حكومته تسحب تركيا بعيداً عن الفضاء الأوروبي والعلاقات الغربية التقليدية نحو الجوار العربي والإسلامي.
مثل هذا الرئيس للحكومة التركية ما كان له أن يقفز فوق الميراث ثقيل الوطأة للعلاقات اليونانية التركية (العثمانية)، وملايين الأسر التركية اليوم تعود في جذورها إلى البلقان وجزر المتوسط، ولم تغادر ذاكرتها بعد سرديات الطرد والقتل والتهجير.
من جهة أخرى، خاض أردوغان، خلال الأسابيع القليلة الماضية، على صعيد الإصلاح الداخلي معركة برلمانية كبيرة من أجل تمرير حزمة لتعديل عدد ملموس من مواد الدستور التركي.
الدستور، الذي وضع في ظل نظام الانقلاب العسكري في 1982، ظل طوال العقود الثلاثة الماضية القلعة الصلبة للطبقة الكمالية الحاكمة طوال العهد الجمهوري، والتي عززت سيطرتها على الحكم منذ الانقلاب الأول في 1960 بثقل المؤسسة العسكرية ودورها المعلن والخفي في تقرير شؤون البلاد.
ليس ثمة ديمقراطية واحدة يوفر دستورها لجهاز الدولة، ولمؤسستيها القضائية والعسكرية، مثل السيطرة التي يوفرها الدستور التركي على الشعب، على تياراته السياسية المعارضة، على الأحزاب التي تخرج عن قواعد لعبة الحكم التقليدية، وعلى النقابات العمالية والهيئات المدنية، بما في ذلك حماية العسكريين الانقلابيين من قانون البلاد.
ولأن الدستور يقف حائطاً صلباً أمام تحول تركيا إلى دولة ديمقراطية حقيقية، فقد وعد حزب العدالة والتنمية الشعب أثناء حملة 2007 الانتخابية بدستور جديد، يقطع نهائياً مع الميراث الانقلابي العسكري.
بيد أن قوى المعارضة، وحزب الشعب الجمهوري على وجه الخصوص، أجهضت المشاورات لوضع الدستور الجديد، التي وصلت في العام الماضي إلى مراحلها الأخيرة.
المخرج الوحيد الذي تبقى أمام حكومة إردوغان كان إجراء تعديلات جزئية على الدستور، لاسيما المواد الأكثر إشكالية منه، بما في ذلك تعديل بنية مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الدستورية، ووضع نهاية لسلطة القضاء في حل الأحزاب.
والمدهش أن الجدل الذي أطلقته القوى المعارضة حول التعديلات الثلاثة الرئيسية يغفل أكثر من عشرين تعديلا آخر في الحزمة المقترحة، تعزز وضع المرأة التركية، توفر المزيد من الحقوق للنقابات العمالية والمهنية وللنقابيين، وتحمي حقوق المواطن المدنية.
بأكثريته البسيطة في البرلمان التركي، لم يستطع العدالة والتنمية تمرير التعديلات المقترحة في قاعة البرلمان، حيث يتطلب التعديل الدستوري أكثر من ثلثي الأصوات وليس مجرد الأكثرية.
ما استطاعه هو تمرير كل بنود الحزمة، ما عدا البند المتعلق بحل الأحزاب، للاستفتاء الشعبي. ولكن الاستفتاء يقف الآن أمامه عقبات جديدة من القوى المعارضة.
في كلتا الحالتين، ملف العلاقات التركية - اليونانية والإصلاح الدستوري الداخلي، تواجه سياسة العدالة والتنمية معارضة داخلية هائلة، ليس بالمعنى الديمقراطي التقليدي للمعارضة، التي تأخذ في الاعتبار حسابات الأقلية والأكثرية وتوجهات الرأي العام، بل معارضة بالمعنى الاستقطابي، المعطل، وانقلابي التوجه، الذي يستهدف إصابة الحكومة المنتخبة بالشلل والعجز عن القيام بمسؤوليات الحكم.
لا تواجه المبادرة نحو اليونان معارضة من حزب الشعب الجمهوري والحزب القومي واتهامات للحكومة بالتفريط في المصالح القومية وحسب، بل وبينما كانت طائرة رئيس الحكومة التركية تحط في مطار اثينا، حرص أصدقاء المعارضة التركية في الجيش على إطلاق نفاثات سلاح الجو التركي في سماء بحر إيجه، في طلعة استفزازية للجار اليوناني.
وفي اليوم الذي بدأ فيه إردوغان زيارته لليونان، كان حزب الشعب الجمهوري يتقدم بطعن أمام المحكمة الدستورية في العاصمة أنقرة، يستهدف منع الحكومة من إجراء الاستفتاء على حزمة التعديلات الدستورية.
في تركيا، كما في عدد آخر من بلدان المشرق، تتبنى القوى التقليدية، المحافظة، الإسلامية، سمها ما شئت، برنامج التغيير والتجرؤ على الانقلاب علي الوضع الراهن أو إصلاحه، تقف إلى جانب الحريات والقوى المدنية، وتعمل من أجل بناء نظام حكم تعددي، حقيقي، يرجح كفة المجتمع ويضعف من قبضة الدولة.
وفي المقابل، تقف الطبقات الحاكمة التقليدية، التي طالما قدمت نفسها باعتبارها الحارس لقيم العلمنة والتقدم وتحرر المجتمع والدولة من قيود الموروث. إن استخدمنا مصطلح الثقافة السياسية الغربية السائدة، تحمل قوى يمين الوسط برنامجاً تقدمياً، بينما تعمل قوى يسار الوسط على تكريس الأوضاع الراهنة.
وهذه، على أية حال، سمة أخرى من سمات الافتراق بين السياسة في المشرق العربي الإسلامي والسياسة في المتروبولات الغربية.
المدهش، في العديد من الحالات، أن العواصمالغربية تقف إلى جانب القوى والطبقات المناهضة لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة المدنية، التي طالما اعتبرتها العواصمالغربية قيماً عالمية شاملة.
*كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث جريدة القدس 20/5/2010