د.مدحت أنور نافع تدور فى مصر هذه الأيام معارك جدلية بيزنطية عديدة لا يخرج منها المتابع بأية نتيجة. من هذه المعارك يطل علينا خلاف أزلى متجدد يقول فيه صاحب الرأى لصاحبه وهو يحاوره: والله لا أعلم فى رأيك أصالة ولا أشم فيه إلا رائحة العطن، فيرد عليه صاحبه بأنه ينقم من رأيه مثل ذلك ويزيد عليه..
وهكذا فلا يرتد على المستمع إلا الصخب ولا يعلم باغى الحقيقة أين مستقرها ومستودعها.
ولمّا تأملت هذه الحال وجدتنى وأنا المستاء من أصحاب تلك المناوشات، أستدرج إليها تباعاً بفعل قلم رأيته كما رآه الكثيرون من القرّاء ينضح بالنفاق ويزيّف الواقع المعيش. وما كان من صاحب هذا القلم –أو صاحبته- إلا أن ادّعت لرأيها الأصالة ووصمت رادّيها إلى جادة الصواب بالخطل بل وادّعت ما دفعنى إلى كتابة هذا المقال دفعاً.
قالت: وما أدراك وأنت الداعى إلى حرية التعبير لعل هذا رأيى فى الأمور فما أنت علينا بوكيل. ورغم أننى وجدت فى كثير من تعقيبات القرّاء الأعزاء بتلك الجريدة المستقلة ما يفنّد مزاعمها، إلا إننى آثرت أن أقف منها موقف العوام ممن قد ينطلى على بعضهم ضعيف الحجج، ووجدت لزاماً علىّ أن أقلب هذا الدفع سراً وعلانية لا لأهمية صاحبته بل لأنه صار يتردد كثيراً فى مجالس الساسة ومقاهى الأحزاب.
سألت نفسى: ما الذى يمكن أن يصم قلم الكاتب بأنه مأجور وأنه لا مداد له غير الزيف والتدليس؟ بل ما الذى ينزّه رسول الله (صلي الله عليه وسلم ) عن قول كثير مما نسب إليها كذباً من الأحاديث الموضوعة؟ بل وكيف عرف البحّاث فى كتابات وليام شكسبير ما ينتسب إليه وما وضع عليه؟
فلنرجئ الإجابة على السؤال الأول لفصل الخطاب، ولنحاول الإجابة على السؤالين الثانى والثالث.
أما عن تدقيق نسبة الأحاديث إلى خير من حدّث (صلي الله عليه وسلم ) فهى رهن الاختبار من حيث صحة النقل عن الرواة الثقاة (وهذا اختبار لا نقيس عليه لأن أصحاب الرأى الذى نبتغى بحث نسبته إليهم أحياء يرزقون ولا يروى عنهم أحد) ثم من حيث موافقتها متناً لقلب الحقيقة وهى كلام الله، والسياق التاريخى الذى عاشه الرسول (صلي الله عليه وسلم ) وصحابته.
فإذا خرج علينا من الثقاة من يدّعى أنه عثر على مخطوطة تاريخية تحمل حديثاً شريفاً يذكر أملاك رسول الإسلام (صلي الله عليه وسلم ) فى الساحل الشمالى مثلاً ! فلن تمضى فى قراءة هذا الهراء أكثر من لحظات تستبين منها زيف القول الذى يظهر للقاصى والدانى من أول سطر.
فأنت أولاً تعلم أن الواقع الذى عاشه المسلمون فى عهد الرسول (ص) كان واقع تقشّف وزهد، وأنت ثانياً تعلم أن المسلمين لم يدخلوا مصر إلا فى عهد عمر ابن الخطاب رضى الله عنه، وأنت ثالثاً تعرف أن الرسول (صلي الله عليه وسلم ) كان يخصف النعل ويرقع الثوب...إلى غير ذلك من براهين هى موضع إجماع على زيف انتساب هذا الحديث إلى الرسول الكريم (صلي الله عليه وسلم ).
إذن أنت ترفض نسبة القول لقائل نزّهه واقعه المعيش عمّا ورد فى الحديث من تفاصيل.
أما وليام شكسبير الأديب الشاعر العظيم، الذى ضن الزمان أن يأتى بمثله فكثيراً ما أثار الجدل فى أوساط البحّاث فى أدبه. فبين مدّع أن كاتب مسرحياته هو معاصره الأديب "فرانسيس بيكون" وأن اسم وليام شكسبير، ذلك الممثل المتواضع، لم يكن إلا ستاراً لمؤلفات "بيكون".
وبين من نسب كل أعمال شكسبير إلى شاعر آخر سبقه إلى تأليف عدد من المسرحيات يحمل بعضها أسلوب شكسبير وأبطال أعماله، وبين قائل إن شكسبير هو شخصية وهمية لا وجود لها.. وكلها مزاعم حدت بالمدققين إلى استجلاء الحقيقة وتمحيصها.
ليس ثمة خلاف على أن بعض الأعمال المنسوبة إلى شكسبير لم تكن من تأليفه أو أن بعض فصولها على الأقل لم يتمه بنفسه. وكان شائعاً فى عصره أن يتم أحد الكتاب رواية لكاتب آخر بهدف إعدادها للعرض على المسرح، خاصة إذا كان صاحب الرواية الأصلى قد هاجر أو قضى.
ولكن ظلت أهم أعمال شكسبير الأدبية تنسب إليه بعد أن عرضها المدققون على الظروف الحياتية للكاتب الكبير، وعلى ظروف بريطانيا فى هذا العصر والعصور السابقة عليه، وعلى أحوال البلاط الملكى وأحوال الرعية ممن كان لهم أثر على رجل مثله ليخط بقلمه أروع ما عرف المسرح، بل وعلى مواضع وتراكيب الحروف والكلمات فى أشعاره وعلى الأخطاء التاريخية التى لم تكن لتصدر إلا منه.
.إلى غير ذلك من قسمات العصر والواقع حتى أن مسرحية ضعيفة المستوى نسبياً مثل "خاب سعى العشاق" تبيّن للباحثين أنها من أعماله المبكرة قبل نضوج قلمه وقبل أن يولع بالمآسى على حساب الأعمال الهزلية.
إلى هذا الحد يمكن للباحث أن يعرف للقلم أصالته وأن يسبر أغوار نفس صاحبه حتى وإن مضت عليه مئات السنون، ذلك لأن الحق ليس له سوى وجه واحد وأن الواقع الذى عاشه الناس لا يكذب وإن حاول الكثيرون تشويهه.
هنا تكمن الإجابة على سؤالي الأول، فالرأى الأصيل لا يخالف الواقع ولا يرفع من قدر المسوخ ويحط من هام الأبطال، الرأى الأصيل لا يخط مداده النفاق ولا يقول لسكّان القبور اسعدوا فأنتم فى أزهى العصور. الرأي الأصيل لا يباهى بهزيمة الجهل وهو نفسه مازال يرفل فيه.
الرأي الأصيل لا يزرع غرسه المريض فى أرض تتعافى من أوصاب الخطل. الرأي الأصيل لا يقبل أن يؤجّر لصاحب مال ولا سلطان.
كل ما تقدّم لا يجعل من جريمة صاحبتنا إلا هذراً إن هى قورنت بفعال أصحاب الأقلام من كتّاب الصفحات والأعمدة الذين يحرثون رواتبهم الفلكية من دم الشعب ويبيعون أقلامهم البالية لصاحب السلطان. أما صاحبة الفضل فى شحذ يراعتى لكتابة هذه السطور فجرمها هيّن كقلمها الرخيص ولا أحسبها محصلّة من بيعه إلا الفتات.