الأولوية في موريتانيا للاستقرار وليس للديمقراطية! خيرالله خيرالله مضت سنوات، بل سنوات طويلة، علي سماعنا ما يُسمي البلاغ الرقم واحد تبثه إحدي الإذاعات الوطنية وترافقه الأهازيج والأناشيد الوطنية. بتنا نفتقد بيانا يعلن نجاح انقلاب عسكري في دولة عربية والتخلص من نظام ديكتاتوري قاتل مدني أو غير مدني فيها. بقيت موريتانيا استثناء عربيا بعدما حصنت الأنظمة العربية الأخري نفسها في وجه الانقلابات وثورات القصر الرئاسي او الملكي أو الأميري. صار مستحيلا إسقاط الحاكم من داخل. ربما كان آخر حكم مدني أسقطه انقلاب عسكري، النظام الذي كان قائما في السودان قبل العام 1989. لم يسقط إلا نتيجة تآكله من الداخل والتناحر بين الأحزاب السودانية. سهل هذا التناحر وصول الفريق عمر حسن البشير الي السلطة إثر انقلاب عسكري كان في البداية بالتواطؤ مع الزعيم الإسلامي حسن الترابي أو بتغطية منه. بعد ذلك، انقلب البشير علي الترابي... وكاد أن يعدمه!. منذ العام 1989، طويت صفحة الانقلابات العسكرية العربية إلا في موريتانيا حيث بقيت هذه التقليعة رائجة حتي في القرن الواحد والعشرين. أزاح العسكريون في الثالث من أغسطس من العام 2005 الرئيس معاوية ولد الطايع الذي خرج من صفوف الجيش وحكم طويلا بعد نجاح انقلابه العسكري. أزاح العسكر العسكر. كانت هناك مجموعة تفكر في مستقبل موريتانيا وفي كيفية العودة الي حكم مدني يكون عمليا بضمانة من العسكر. كان مطلوبا من الناحية العملية أن يكون النظام في موريتانيا ديمقراطيا وأن تكون هناك أحزاب وتعددية سياسية وانتخابات عامة علي أن تبقي القرارات الأساسية، أي تلك المتعلقة بالسيادة والخطوط العريضة للسياسة الخارجية، فضلا بالطبع عن الحرب علي الإرهاب. بدأت هذه الحرب تتحول الي الهم الأول لدول المغرب العربي وتلك المحيطة بموريتانيا خصوصا بعدما صار لتنظيم القاعدة قواعد في المنطقة الواقعة جنوبها وتمتد من السنغال، الي النيجر، الي مالي، الي جنوبالجزائر وصولا الي جنوب السودان مرورا بالتشاد. وجدت المجموعة العسكرية المستنيرة في موريتانيا، علي رأسها العقيد محمد ولد عبدالعزيز، أن المصلحة الوطنية تكمن في صيغة جديدة تعتمد الديمقراطية. ولذلك، قررت المجموعة تنفيذ ما تعهدت به بعد إزاحة ولد الطايع، أي إقامة نظام ديمقراطي وترك الشؤون اليومية للسياسيين. هذا ما حصل بالفعل في مارس من العام 2007. أجريت انتخابات عامة فاز فيها الرئيس ولد الشيخ عبدالله. كان هناك إجماع عالمي وإقليمي علي أن الانتخابات كانت خالية من أي شوائب. فجأة صارت موريتانيا نموذجا ل الديمقراطية في أفريقيا. لم يقل أحد إن الرئيس الجديد كان يحظي بدعم العسكر. وهو دعم كان لا بدّ منه كي يتمكن من الفوز في الانتخابات الرئاسية في بلد مثل موريتانيا يحتاج فيه السياسي الي دعم مالي وروابط قبيلية وعشائرية ومناطقية. علي رأس العسكر الذين دعموا ولد الشيخ عبدالله، كان العقيد محمد ولد عبدالعزيز. أصرّ الرجل في حينه علي تسليم الحكم للمدنيين، علي الرغم من أن بعض رفاقه من بين الذين شاركوا في قلب ولد الطايع كانت لديهم أفكار من نوع آخر. منذ وصوله الي الرئاسة، نسي الرئيس الجديد الظروف التي أتي بها الي السلطة. نسي أن العقيد عبدالعزيز لا يزال مسيطرا علي الجيش وإن صار في موقع رئيس أركان الرئاسة. اعتقد ولد الشيخ عبدالله، الذي اشتهر بلقب سيدي ، أنه رئيس البلاد بالفعل وأن من حق زوجته أن تتصرف علي هواها وأن تجمع التبرعات لجمعيات خيرية تابعة لها. لكن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه كان في تقربه من الإسلاميين والاستعانة بشخصيات كانت قريبة من ولد الطايع. حصل ذلك في وقت كانت الأحوال الأمنية والاقتصادية في تدهور مستمر. من بين الحوادث الأمنية التي شهدتها البلاد قتل سياح فرنسيين أواخر العام الماضي وإطلاق نار وقذائف علي السفارة الاسرائيلية اضافة الي هجمات تعرضت لها مواقع للجيش في أنحاء مختلفة من الأراضي الموريتانية. كان الإنذار الجدي الأول الذي وجهه العسكريون الي الرئيس تمرد عدد لا بأس به من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ عليه ما أفقده دعم الأكثرية في المجلسين. اختار سيدي المواجهة، فكانت النتيجة الانقلاب العسكري الذي يبدو أنه يحظي بدعم شعبي، خصوصا بعدما طمأن العقيد عبد العزيز مواطنيه الي أنه سيحافظ علي المؤسسات وأن انتخابات رئاسية ستجري قريبا وستكون شفافة . لن يأسف كثيرون علي الرئيس الموريتاني المخلوع المرشح لارتكاب خطأ جديد. يتمثل الخطأ في رهانه علي أن الدعم الدولي سيعيده الي السلطة. نعم هناك دعم دولي أمريكي وأوروبي وحتي من الأمين العام للأمم المتحدة له. كذلك هناك تنديد بالانقلاب والانقلابيين. لكن الأولوية الأمريكية والأوروبية وتلك التي لدي الدول المحيطة بموريتانيا هي للأمن والاستقرار والحرب علي الإرهاب. الي إشعار آخر، ليس في استطاعة سيدي خوض تلك الحرب. لم يحسن التصرف في أي شكل في مواجهة الظاهرة الخطيرة التي جعلت الأمريكيين يرسلون قوات خاصة الي المنطقة لمواجهة خلايا القاعدة أو لتدريب قوات محلية علي ذلك، كما حصل في الجزائر مثلا. ما شهدته موريتانيا لم يكن انقلابا بالمعني الكلاسيكي للكلمة. كان خطأ في الحسابات ارتكبه رئيس مدني تجاوز الدور المرسوم له في وقت ليس مسموحا له بذلك. هذا كل ما في الأمر. استقرار موريتانيا مطلب إقليمي ودولي لا يحققه حاليا سوي العسكر، أقله في المرحلة الراهنة!. عن صحيفة الراية القطرية 12/8/2008