لا موضوعية في نسخ التجربة فايز رشيد ليس صعباً على المراقب أن يخلص بنتيجة مفادها أن حركة “حماس" تحاول نسخ تجربة حزب الله في لبنان على صعيدي المواجهة بالنسبة للعدو الصهيوني، أو في ما يتعلق بالنظرة إلى الساحة الداخلية. حركة “حماس" في موافقتها على التهدئة مع “إسرائيل"، كان في أذهان قادتها تلك التهدئة المثيلة غير المباشرة بين حزب الله و"إسرائيل" (تفاهم نيسان) في أعقاب اجتياح الجنوب اللبناني في عام ،1996 ومجزرة قانا، حين أعلن الحزب إمكانية عدم قيامه بقصف مدنيي مستعمرات شمال فلسطينالمحتلة، إذا وافقت الأخيرة على عدم التعرض للمدنيين اللبنانيين، وفعلاً هذا ما تم حتى عام ،2000 حين قامت المقاومة الوطنية بتحرير معظم أراضي الجنوب اللبناني، محققة انتصاراً على العدو الصهيوني. ما بين العامين 1996 ،2000 وعلى مدى أربع سنوات، لم يوقف حزب الله عملياته العسكرية، ضد القوات “الإسرائيلية" في الجنوب اللبناني، كما لم يضع قوات “جيش لبنان الجنوبي" العميلة ل"إسرائيل" كهدف مباشر له. التهدئة بالنسبة إلى حماس هي عامة وشاملة إن لجهة إطلاق الصواريخ على المستعمرات القريبة من القطاع، أو بالنسبة لقوات الاحتلال على المعابر (باستثناء معبر رفح)، التي تغلق المعابر متى تشاء، وتفتحها لفترات زمنية قليلة محددة أنواع المواد الداخلة الى غزة وكمياتها، أي أن قوات الاحتلال هي المتحكمة فعلياً في القطاع، وبكلام آخر فإن القطاع عملياً يقع تحت الاحتلال (وهذا ما يقوله حتى مراقبو الأممالمتحدة في غزة). من ناحية ثانية، فإن التهدئة لم تسر على الضفة الغربية، التي تقوم القوات الصهيونية باختراق مدنها وقراها وكل مناطقها لقتل من تريد قتله أو لاعتقال من تريد اعتقاله، وكان الأجدر أن تدخل الضفة الغربية أيضاً ضمن اشتراطات التهدئة، وكان بإمكان “حماس" التنسيق مع السلطة الفلسطينية حول هذا الأمر (بالرغم من ظروف الانقسام والخلاف الموجود بين الطرفين)، فالأراضي المحتلة في عام 1967 هي الضفة الغربية وقطاع غزة، وليس أحدهما منفرداً، وأهداف “إسرائيل" كانت وستظل تقسيم الفلسطينيين ومناطقهم إلى أجزاء عديدة، وإذكاء نيران الاختلاف، وصولاً إلى الانقسام بين صفوفهم، أي ان الفصل القسري بين الضفة الغربيةوغزة يوقع من يمارسه، مباشرة أو بطريق غير مباشر في كمائن الأهداف “الإسرائيلية". بالتالي، فإن النسخ الحرفي لتجربة المقاومة اللبنانية على الصعيد الفلسطيني هي مسألة تخرج عن نطاق الموضوعية، فإضافة إلى الفوارق الكبيرة في الجغرافيا، والجيوبوليتيكا بين البلدين. هناك فوارق أخرى، فلبنان المتشكل في دولة ذات سيادة معترف بها دولياً، هو غير قطاع غزة الواقع تحت الاحتلال، مثل الكل الفلسطيني، وطبيعة الأهداف “الإسرائيلية" في لبنان هي غير أهدافها في فلسطين، فبينما تقتصر في البلد العربي على تدمير سلاح المقاومة اللبنانية وتوقيع معاهدة مع حكومته، فإنها بالنسبة للفلسطينيين تتمثل في نفي الوجود الفلسطيني شعباً ودولة وسيادة، انطلاقاً من رؤيتها للوجود الفلسطيني كنقيض تام للوجود “الاسرائيلي" نفسه. بالتالي، فإن أهداف حزب الله التي كانت ولا تزال معلنة هي: تحرير الأسرى (وهذا ما تم)، وتحرير مزارع شبعا، والتصدي للعدوان الصهيوني، هذا بالطبع بعيداً عن الرؤية الاستراتيجية لحزب الله في ما يتعلق بالوجود “الاسرائيلي". بالنسبة إلى حركة المقاومة الفلسطينية، التي تعيش مرحلة التحرر الوطني (والمقاومة اللبنانية لا تعيش ذات المرحلة)، فإن الأهداف الاستراتيجية تتلخص في: تحرير المناطق التي جرى احتلالها في عام ،1967 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة (بالنسبة لبعض الفصائل) وتحرير فلسطين كاملة، من النهر إلى البحر (بالنسبة لفصائل أخرى)، مع اتفاق عام على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، مما يعني اختلافاً موضوعياً بالنسبة لحركتي المقاومة في كل من فلسطين ولبنان. بالنسبة إلى السياسات الداخلية، تحاول حركة “حماس" نسخ تجربة حزب الله في الجنوب اللبناني، من حيث وجوده كقوة أساسية فيه، وفي ذلك أيضاً اختلاف كبير، ففي الوقت الذي فرض فيه حزب الله نفسه قوة أساسية في الجنوب من دون الاشتباك مع تيارات أخرى في المقاومة، فإنه استطاع أيضاً تشكيل البنى القادرة على جذب المقاومين من التيارات الأخرى ضمن الاتفاق على استراتيجية عامة، وعمل الحزب في بيئة جنوبية متجانسة مع أطروحاته على جميع الصعد، ولعل من أهمها السياسية، كما أن الحزب، وبالرغم من تضحياته، لم يرَ نفسه بديلاً للدولة اللبنانية، بل إنه في عام 2000 وعندما حرر معظم مناطق الجنوب، كان يقبض على أعضاء جيش لبنان الجنوبي ويسلمهم للدولة. وفي المعادلات السياسية الداخلية يرى حزب الله نفسه جزءاً من قوى كثيرة متعددة أخرى، ترى من بينها من يناقضه الرأي في مختلف المجالات، لكنه يرى الحل من خلال التوافق الوطني بين جميع القوى والاتجاهات السياسية، وللحزب وزير واحد في الحكومة اللبنانية الحالية. أما حركة حماس، فإن تجربتها في السلطة (النسبية ومحدودة الصلاحيات) تثبت أنها لا تريد في قطاع غزة أن تسمع غير صوتها، فبعض مقاتليها وإبان الاشتباك مع “فتح" في تلك الآونة، كانوا يحملون شعاراً يقول (اليوم اللحديون وغداً الملحدون)، مما يعني أنها لا ترى في نفسها جزءاً من كل، بل ترى ذاتها بديلاً لكل التنظيمات الفلسطينية، ولذلك فهي أغلقت إذاعة تابعة للجبهة الشعبية (التنظيم الثاني في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية) آنذاك، وأعادت إغلاقها حديثاً، وهي أوقفت توزيع الصحف الفلسطينية في القطاع، واشتبكت مع عائلات فلسطينية آخرها عائلة حلّس، من دون إدراك منها لمخاطر الاشتباك مع فئات مهمة في الشعب الفلسطيني، ومن دون إدراك للأجواء العشائرية والطبيعة القبلية في القطاع، وهي أيضاً في أجواء يسودها التوتر مع معظم تنظيمات المقاومة الفلسطينية في غزة.. صحيح ان ل"حماس" جماهيرها الكبيرة، أيضاً لتنظيمات المقاومة الأخرى جماهيرها الغفيرة، وعلاقات التوتر بين “حماس" وأي من التنظيمات الفلسطينية، ستنعكس سلباً على العلاقة بين الجماهير الفلسطينية، وهذا ما يجب أن تتجنبه حماس وكل التنظيمات الفلسطينية الأخرى. كان مؤلماً وكريهاً ومحزناً، أن يهرب أعضاء من “فتح"، من ملاحقة “حماس" لهم، وأين يهربون؟ إلى “إسرائيل" وكان أكثر إيلاماً وحزناً ومدعاة للخوف على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، أن يساق هؤلاء، بعد إعادتهم من قبل العدو الصهيوني، إلى السجن في غزة. “حماس" تؤرخ للثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها في عام ،1988 وهذا لا يجوز فتنظيمات كثيرة انطلقت في أواسط ستينات القرن الماضي، ولا يجوز ل"حماس" أو لغيرها من التنظيمات أن تتجاهل تاريخ الثورة الفلسطينية وتضحيات فصائلها. ولعل “حماس" تدرك حقائق الواقع الفلسطيني، وأبرزها: وجود تنظيمات فلسطينية متعددة من اليسار إلى اليمين، ولعلها تدرك أيضاً أنه ما من وسيلة لإتمام معركة الانتصار سوى التمسك بالوحدة الوطنية الفلسطينية على برنامج الثوابت الفلسطينية والقواسم المشتركة، وأن لا طريق بين الفصائل سوى الحوار الوطني، والحوار الوطني فقط، وبعد التحرير فلتتصارع البرامج ديمقراطياً، وهذه النقاط مجتمعة أدركها حزب الله في التعامل مع الداخل اللبناني ونتمنى ألا تتجاهلها “حماس"، حتى تعود ساحتنا الفلسطينية إلى سابق عهدها. عن صحيفة الخليج الاماراتية 11/8/2008