أوباما ساعياً لامتلاك الخبرة عوني صادق بعد تفوقه على منافسته القوية هيلاري كلينتون في المرحلة الأولى من ماراثون الرئاسة الأمريكية، وفوزه بترشيح الحزب الديمقراطي، ازداد الفتى الأسود ثقة وإصراراً على إنهاء السباق لصالحه والتغلب على خصمه الجمهوري العجوز جون ماكين، يحدوه الأمل أن يحل ساكناً شرعياً في البيت الأبيض. ولعله يستلهم القوة والعزيمة اللازمتين لمواصلة السباق وإحداث الاختراق الكبير من جلد أجداده الذين جلبوا عبيداً من إفريقيا إلى مزارع الرجل الأبيض، والذين ربما ما زال بعض أحفادهم يعملون حتى اليوم في مزارع بعض عائلات الجنوب.
ومنذ اليوم الأول من مغامرته ودخوله السباق الرئاسي، ركز باراك أوباما جهوده وقدراته الخطابية على إبراز حاجة أمريكا للتغيير، محاولاً التأكيد على أن هذا “التغيير" لن يتحقق إلا من خلال تغيير الحزب الحاكم، وهو يقصد من خلال انتخابه هو تحديداً للمهمة، مستغلاً ما ألحقته سياسات جورج بوش من أضرار بأمريكا وبالحزب الجمهوري، وما تسببت به من إرباكات لحياة المواطن الأمريكي. ولاعتبارات عديدة لاقى هذا الشعار هوى في نفوس الأمريكيين، حتى إن منافسي أوباما في الحزبين اضطروا لأن يرفعوه معه ليدور السجال حول أي تغيير وكيف، بأي معنى وبأي اتجاه، ومن المرشح القادر فعلاً على تحقيق ذلك؟ والذين تابعوا تلك السجالات اكتشفوا أن التغيير في أمريكا يمكن أن يصل إلى كل المجالات باستثناء مجال العلاقات الأمريكية - “الإسرائيلية"، فهذا مجال ليس موضوعاً للتغيير أو التعديل.
ونقطة الضعف الأساسية التي وجدها الخصوم في سجل أوباما كانت في “قلة الخبرة"، ولذلك تمسكت بها كلينتون حتى خرجت من السباق، وظل ماكين متمسكاً بها، خصوصاً بعدما تبين أن لون أوباما وخلفيته الإسلامية لم يكونا كافيين لإبعاده عن الحلبة. من هنا كانت الحاجة لأن يقوم أوباما بزيارته للشرق الأوسط، والهدف منها زيارة تل أبيب، سعياً وراء “الخبرة" المطلوبة حتى لا تنطفئ الشعلة ويضيع الأمل. أما جولته في أوروبا، فربما لا تزيد عن مجرد جزئية، الغرض منها تسليط مزيد من الأضواء على النجم الصاعد. فالأمريكيون، سواء كانوا بيضاً أو سوداً، ليسوا في حاجة ماسة إلى خبرة “القارة العجوز"، كما رأى مرة دونالد رامسفيلد، بالرغم من دعوة أوباما “لإسقاط الحواجز بين قدامى الحلفاء على ضفتي الأطلسي".
اللافت للنظر أن زيارة أوباما لدولة الكيان الصهيوني، ونشاطاته التي قام بها، وتصريحاته التي أدلى بها، كلها أظهرت أنه لم يكن في حاجة للخبرة، حيث تبين مما فعله وقاله أنه “يحفظ الدرس جيداً"، ويعرف ما يتوجب عليه عمله ما دام جاداً في الوصول إلى البيت الأبيض. فهناك، على أرض فلسطين، المغتصب منها والخاضع للاحتلال، تكلم أوباما بلغتين: في القدس، أكد أنها “عاصمة إسرائيل"، ومنها زار ووضع إكليلاً عند نصب “المحرقة"، وصلى- وربما بكى- عند حائط البراق معتمراً القلنسوة اليهودية، ووضع ورقة مكتوباً عليها شيء من النفاق، تماماً كما يفعل اليهود، وكل الرؤساء الأمريكيين، والطامعين في الرئاسة الأمريكية الذين يزورون كيان الاغتصاب العنصري في هذه المواسم. أما في رام الله، فلم يكن للزيارة أي هدف، لذلك لم يكن لها أي معنى. كانت مجرد محاولة لتذكير المتابعين بتميزه عن منافسه ماكين، الذي لم يذهب إلى رام الله أثناء زيارته المماثلة للكيان. في القدسالمحتلة، قال أوباما إنه جاء ليؤكد التزامه بأمن “إسرائيل"، وليطمئن أولمرت بأنه سينسق مع “إسرائيل" بشأن الملف النووي الإيراني إذا فاز في الانتخابات، مشدداً على أنه يجب منع إيران من امتلاك القدرة النووية. وفي مستوطنة سديروت، قال: إن من حق “إسرائيل" أن ترفض التفاوض مع حماس، وكل من لا يعترف لها بالوجود، كما أنه من حق “إسرائيل" أن “تدافع" عن نفسها. لكنه لم يلحظ شيئاً مما يتعرض له الفلسطينيون في الضفة الغربية، كما لم يلحظ أن مليوناً ونصف المليون فلسطيني تحاصرهم الدولة التي جاء خائفاً على أمنها، مؤكداً التزامه بهذا الأمن، أما في رام الله فقال: إنه جاء ليستمع إلى “وجهات نظر" الأطراف، وهو يؤيد “عملية السلام"، ويقصد عملية السلام التي تقبلها “إسرائيل".
بعد انتهاء زيارة أوباما إلى الكيان الصهيوني، يبقى السؤال: هل حصل أوباما على “الخبرة" التي سعى إليها في زيارته؟ الجواب طبعاً مؤجل إلى نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، عندما ينتهى فرز أصوات الناخبين الأمريكيين.
ويعني بالدرجة الثالثة أن خطة التوسع في بناء قواعد عسكرية أمريكية إلى أن يصل عددها خلال سنوات قليلة إلى الألف قاعدة، ليست سوى مرحلة أخرى في مراحل تثبيت الخريطة الجديدة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية على “الأرض" قبل إطلاق استراتيجية عسكرية للفضاء.
ويعني بالدرجة الرابعة أن جماعة اليمينيين الجدد عندما قرروا السيطرة على أمريكا تسربوا كسياسيين وإداريين ومستشارين إلى إدارات البنتاجون قبل أن ينفذوا إلى أي مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة. بمعنى آخر، تعرف القوى السياسية في أمريكا أن مدخلها إلى التأثير المباشر في الحكم هو الهيمنة على البنتاجون.
يخطئ، في ظني على الأقل، من يعتقد أن انحدار السمعة الأمريكية في الخارج أو تدهور شعبية سياساتها وحكومتها مؤشر على احتمال انكماشها العسكري في الخارج أو تقليص نفوذ العسكريين في الداخل. كذلك لن يكون هذا الانحدار أو ذاك التدهور دافعاً كافياً ليعيد قادة المؤسسة العسكرية الأمريكية النظر في عقيدة “السيطرة الكونية". ما يحدث الآن، وستتسارع خطواته في المستقبل، هو تطوير أدوات هذه العقيدة ومفاهيمها لتتواءم مع “التحولات الكونية" وهي عديدة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 31/7/2008