الولايات المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية محمد خليفة ذكرت صحيفة “ترود" البلغارية أن وزارة الدفاع في بلادها أكدت أن الجنود الأمريكيين الذين سيرابطون في بلغاريا لن يتمتعوا بحق عدم التسليم إلى المحكمة الجنائية الدولية. وكانت الولاياتالمتحدة قد طلبت من صوفيا في ديسمبر/ كانون الأول عام 2003 أن توقع معها اتفاقية حول عدم تسليم المواطنين الأمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية الأمر الذي قوبل برفض واضح. وكانت بلغاريا قد أصبحت بعد الحقبة الشيوعية من أوثق حلفاء الولاياتالمتحدة في أوروبا الشرقية، فقد شاركت في الائتلاف الدولي الذي قادته الولاياتالمتحدة في الحرب على العراق. وهناك توجّه أمريكي لضمّ بلغاريا إلى حلف شمال الأطسي، وهناك توجّه أمريكي أيضاً لإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في بلغاريا، خاصة أنها مطلة على البحر الأسود وقريبة من روسيا العدو التقليدي للولايات المتحدة. وتريد واشنطن أن تضمن أن جنودها الذين سيتواجدون في بلغاريا لن يتعرضوا للمساءلة القانونية أمام محكمة الجنايات الدولية عن أية اتهامات قد توجّه إليهم. لكن صوفيا رفضت توقيع أية معاهدة مع الولاياتالمتحدة بخصوص عدم تسليم مواطنين أمريكيين إلى هذه المحكمة. وقد كان هذا تصرفاً ذكياً من بلغاريا التي تطمح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهي لا تريد الالتزام بأية معاهدة قد تضر بمفاوضاتها مع هذا الاتحاد للوصول إلى العضوية الكاملة فيه.
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تنادت عام 1994 إلى إنشاء قضاء جنائي دولي، بعد تجربة إنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 808 لعام ،1993 وإنشاء محكمة مماثلة لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا بقرار من مجلس الأمن أيضاً الرقم 955 لعام 1994. وكلّفت الجمعية العامة لجنة القانون الدولي في الأممالمتحدة إعداد مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية. وما لبثت هذه اللجنة أن أعدت هذا المشروع وقدمته إلى الجمعية العامة عام ،1995 وقامت الجمعية العامة بإنشاء لجنة خاصة لمناقشة القضايا الموضوعية في هذا المشروع، وعقدت اجتماعاتها طوال عام 1995. وفي عام 1996 قررت الجمعية العامة تبديل اللجنة الخاصة باللجنة التحضيرية لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وقد كلّفت هذه اللجنة إعداد نصّ موحّد لمشروع النظام الأساسي لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية وتقديمه إلى مؤتمر للمفوضين الدبلوماسيين يعقد في روما بإيطاليا بدعوة من الجمعية العامة للأمم المتحدة. وانعقد المؤتمر عام ،1998 وعرضت عليه اللجنة التحضيرية المشروع الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وقد وافق المؤتمر عليه.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية وفق النظام الأساسي لها، هيئة دائمة مقرها في لاهاي بهولندا، لها السلطة لممارسة اختصاصاتها على الأشخاص إزاء أشدّ الجرائم خطورة، وهذه الجرائم المنصوص عليها في المادة الخامسة من النظام الأساسي هي: جريمة الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الحرب، وجريمة العدوان. وتمارس المحكمة اختصاصها في ما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم، إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام لدى المحكمة حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت، ويمكن أن تتم الإحالة من مجلس الأمن متصرفاً بموجب الفصل السابع من نظامه، كما أن للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة.
وكانت 139 دولة من بينها 13 دولة عربية قد وقّعت على النظام الأساسي قبل 31 ديسمبر/ كانون الأول عام ،2000 وهو آخر موعد للتوقيع. وابتداءً من عام 2002 باشرت محكمة الجنايات الدولية عملها. كذلك كانت دول الاتحاد الأوروبي من أكثر الدول في العالم دعماً لإنشاء هذه المحكمة، وربما لولا هذا الدعم لما أمكن لها أن تخرج إلى حيز الوجود. وقد صادقت الولاياتالمتحدة على النظام الأساسي للمحكمة، لكنها أسرعت وسحبت هذا التصديق ووقفت موقفاً معادياً من إنشائها، وهذا الموقف الأمريكي يناقض بشكل صارخ ادعاءات الولاياتالمتحدة بأنها رائدة العالم الحرّ وأنها تسعى إلى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. فلو كانت الولاياتالمتحدة صادقة لما تحدّت إجماع المجتمع الدولي على إنشاء هذه المحكمة، بل لكانت أول الموقعين على إنشائها. لكن الولاياتالمتحدة لديها مشروعها الخاص في العالم، فهي تسعى لبسط هيمنتها على الدول المختلفة، ولو كان ذلك بقوة السلاح، وهي في مسعاها هذا قد تضطر إلى الاعتداء على دولة مستقلة أو أكثر، كما فعلت بالنسبة للعراق عام ،2003 وكما قد تفعل ضد سوريا أو إيران أو سواهما.
ولا شك أن اعتراف الولاياتالمتحدة بهذه المحكمة سوف يمنعها من شنّ الحرب والعدوان على الدول الأخرى، ولذلك فهي لم تعترف بها كي تحرر نفسها من أية مسؤولية عالمية، ولم تكتفِ الولاياتالمتحدة بعدم الاعتراف بهذه المحكمة، بل بدأت تسعى لدى دول العالم، وخاصة لدى الدول النامية لتوقيع اتفاقيات ثنائية معها تمتنع هذه الدول بموجبها عن تسليم أي أمريكي مطلوب للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية، موجود على أرضها. والواقع أن عدم اعتراف الولاياتالمتحدة بهذه المحكمة سوف يفقدها الكثير من القوة، نظراً لقوة الولاياتالمتحدة في العالم. ونظراً لأن العدالة الدولية لن تتحقق بشكل كافٍ طالما ظل هناك في العالم من يستطيع الإفلات من سطوتها، وقد يزيد وجود هذه المحكمة من الظلم الموجود اليوم، خاصة أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمحكوم من قبل الولاياتالمتحدة يستطيع أن يحيل من يشاء من مسؤولي الدول الصغيرة في العالم للمثول أمام هذه المحكمة، وهو ما حدث مؤخراً، عندما أصدر هذا المجلس قراره الرقم 1593 والقاضي بإحالة مجموعة من المسؤولين السودانيين إلى هذه المحكمة. وهكذا، فإن هذه المحكمة سوف تتحول إلى أداة في يد الولاياتالمتحدة تستخدمها للانتقام من أعدائها في العالم، في الوقت الذي تبقى هي بعيدة عن متناول يدها. وليت دول العالم تمتنع عن توقيع اتفاقيات ثنائية مع الولاياتالمتحدة بخصوص هذه المحكمة، كما فعلت بلغاريا، لأنه لو حدث ذلك، فستجد الولاياتالمتحدة نفسها معزولة، وقد تضطر في النهاية إلى الاعتراف بوجود هذه المحكمة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 27/7/2008