الفوز ومعاناة العراق رضي السماك كان يوم الأحد الماضي الموافق التاسع والعشرين من يوليو/تموز سنة ،2007 يوماً تاريخياً مشهوداً بكل معنى الكلمة، ومن دون أدنى مبالغة في تاريخ ليس الكرة العراقية أو العربية أو الآسيوية فحسب، بل وفي تاريخ كرة القدم العالمية منذ أول انطلاقة لمسابقاتها الحديثة عام 1930. فلم يحدث طوال هذا التاريخ أن تأهل منتخب أي دولة من دول العالم قاطبة إلى الأدوار النهائية، ثم توج هذا التأهل بالفوز بكأس البطولة في ظل ظروف كارثية شديدة المأساوية يمر بها شعب الدولة الفائزة، كما تأهل وفاز المنتخب العراقي بكأس آسيا في ذلك اليوم التاريخي الأغر، بعد فوزه على شقيقه المنتخب السعودي بهدف واحد مقابل لا شيء في المباراة النهائية على ملعب العاصمة الإندونيسية “جاكرتا". وبهذا المعنى فلا يقاس مغزى وعظمة الانتصار الرياضي الذي حققه المنتخب العراقي إلا على خلفية تلك المحنة والظروف المأساوية التي يمر بها شعبه الجريح المعذب، بين مطرقة الاحتلال وسندان الجماعات الإرهابية التكفيرية التي تسومه شتى صنوف العذاب وتقتل المئات من ابنائه الأبرياء يومياً قتلاً بشعاً من خلال عملياتها الانتحارية الاجرامية، منذ أن وطأت قوات الاحتلال الأمريكية تربة وادي الرافدين، والتي هي بدورها تمارس أعمالها الإجرامية المنظمة بطريقتها الخاصة تحت ذريعة حفظ الأمن وإرساء الديمقراطية في العراق. يكفي لنعرف جيداً معنى فوز المنتخب العراقي وندرك أي طعم من نوعه يعبّر عنه هذا الفوز والذي لا يعرف مذاقه إلا العراقيون وحدهم، أنه في اليوم نفسه الذي توج فيه المنتخب العراقي بكأس البطولة صدر تقرير دولي يكشف جانباً من تلك المحنة المأساوية الكارثية التي يمر بها الشعب العراقي، والتي لا يعرف مثيلاً لها أي شعب عربي آخر. ففي تقرير لعدد من المنظمات الإنسانية العالمية العاملة في العراق ناشدت هذه المنظمات الحكومة العراقية والأممالمتحدة والمجتمع الدولي وضمائر العالم الحية كافة، بالعمل على إنقاذ 8 ملايين عراقي بصفة عاجلة، 40% منهم في داخل العراق يعانون من النقص الغذائي عاجزين عن تأمين ما يسد رمقهم بصورة دائمة، فيما 43% من الشعب يعيش في “فقر مدقع" وأن نصف العراقيين ممن هم في سن العمل عاطلون عن العمل، وأن ارتفاع معدلات سوء التغذية بين الأطفال العراقيين بلغت 28%، أما المهجرون والمشردون داخل العراق وفي دول الجوار فحدث ولا حرج، سواء عن أعدادهم المقدرة بالملايين، أو عن أحوالهم الصحية والمعيشية. وإذ حمّل التقرير تردي الوضع الأمني وانتشار العنف وانعدام حماية حقوق الإنسان مسؤولية هذا الوضع الكارثي، فإنه حمّل ضمنياً أيضاً الحكومة العراقية التقصير في تخفيف حدة معاناة الشعب العراقي من خلال تفعيل سبل توزيع المؤن الغذائية بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني. كما غمز التقرير بتقصير المانحين الدوليين ووكالات الأممالمتحدة في هذا الشأن، وإن لم يشر إلى المسؤولية الأولى التي يتحملها الاحتلال الأمريكي الذي فجّر كل هذه الأزمات وفتح أبوابها على مصاريعها. وبهذه المعاني الكارثية البالغة الضراوة يمكن فهم فقط مغزى فوز المنتخب العراقي بالكأس، فيما لاعبوه يمرون بتلك المشاعر النفسية العصيبة على خلفية كل تلك الأوضاع والظروف المأساوية التي يمر بها شعبهم، فكم لاعب منهم فجع بشهيد أو أكثر من أهله أو أقاربه أو جيرانه أو أحبته، وكم لاعب نكبت أسرته بالتشرد داخل العراق أو خارجه أو نكبت بالفاقة أو الأمراض، ولنتذكر أن المنتخب الفائز هو صورة صادقة للنسيج الوطني العراقي الجميل. ولا غرابة إذاً من أن تغمر الفرحة وتعم قلوب كل العراقيين الأخيار على اختلاف فئاتهم وطوائفهم ومذاهبهم وعرقياتهم، وأن يتحدوا الجماعات الإرهابية للمرة الثانية خلال البطولة بالتعبير عن فرحتهم في الشوارع، رغم ما تكبدوه من ضحايا في أعمال تفجيرية في كلتا المرتين. قلنا: إن مغزى انتصار المنتخب العراقي لا يقاس من حيث عظمته إلا على خلفية تلك الظروف المأساوية الكارثية التي يمر بها شعبه، إذ حتى البطولات الرياضية العالمية عادة ما تم تعطيلها خلال الحروب الكبرى، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، وبهذا المعنى والمعايير لا يمكننا أن نقيس حجم الفوز الذي حققه المنتخب العراقي إلا بحجم الفوز بكأس العالم، لا بكأس آسيا، ولم لا؟ فلنفترض أن العراق العريق بموارده البشرية والطبيعية الهائلة، بلد الحضارات العالمية ومهدها، والمعروف بكفاءاته وخبراته الرياضية الطويلة، لم يمر بكل تلك المحن والظروف التي مر بها على امتداد ثلاثة عقود ونيف، منذ ابتلي بالنظام الدكتاتوري البعثي وصولاً إلى وضعه الحالي تحت الاحتلال الأمريكي، وقيض له أن يعيش تحت نظام يحمل حداً أدنى من الديمقراطية والفساد ويتكفل بحد أدنى من رعاية مواهبه الرياضية من دون فساد أو تمييز بين شتى مكوناته، أما كان ليتأهل حقاً لنهائي كأس العالم ويحقق الفوز به؟ فألف “مبروك" لهذا الشعب العظيم بذلك الانتصار العظيم و"عقبال" كأس العالم. عن صحيفة الخليج الاماراتية 5/8/2007