صفاء سالم إسكندر فى زمن الانهيارات المتسارعة والتصدعات العميقة التى تجتاح العالم العربي، تتكشّف، أكثر من أى وقت مضى، هشاشة الدور الذى يفترض أن يؤديه المثقف لم يعد من المقبول أن نتعامل مع هذا الدور على أنه أمر تجميلى أو رمزي، فالمثقف فى الأصل هو الضمير الحى الذى يرفض القبح، ويمتلك شجاعة تسميته لكنه، فى واقعنا، كثيرًا ما يتحول إلى نسخة مشوهة من ذاته، أسيرًا لتحالفات خفية، أو مواقف مصطنعة، أو طائفية مقنعة. لم تعد الأزمة أزمة جهل أو غياب للمعلومة، فالمعرفة متاحة على نطاق غير مسبوق إنما نحن أمام أزمة أخطر، غياب القراءة الجادة للتاريخ، غياب الإرادة فى فهم اللحظة بصدق، والأخطر من ذلك غياب الشجاعة فى مواجهتها المثقف العربى بات فى كثير من الأحيان رهين طائفته، مذهبه، انتمائه السياسي، أو حتى مزاجه الشخصي. لم يعد الصوت الذى يعلو فوق الجميع ليقول «هذا خطأ»، بل صار فى أحيان كثيرة أحد الذين يصنعون الضوضاء التى تُخفى الخطأ. أن تكون مثقفًا لا يعنى أن تملأ الفراغ بالنصوص، أو أن تُمسك الميكروفون لتتكلم أكثر من غيرك. أن تكون مثقفًا هو أن تمتلك البصيرة قبل البصر، والشجاعة قبل الخطاب، والنزاهة قبل التحليل. ما نراه اليوم هو عكس ذلك تمامًا مثقفون يتقنون التنقل بين الولاءات، يبررون كل شيء، يكتبون كل شيء، يقولون كل شيء، دون أن يقولوا شيئًا حقًا تتغير المواقف بحسب الموجة، ويُعاد تأويل الجريمة لتبدو «قرارًا سياسيًا»، ويُغلف القمع بعبارات كثيرة. المشكلة ليست فقط فيما يُقال، بل فيما لا يُقال فى اختيار الصمت فى اللحظة التى تحتاج فيها الحقيقة إلى صوت فى تجميل البشاعة، وتحويل القاتل إلى رمز، وتقديم الخضوع على أنه «توازن» هذا الصمت ليس بريئًا هذا الصمت موقف، بل هو أخطر المواقف، لأنه يُلبِس الظلم ثوب الحكمة، ويمنح القبح شرعية أخلاقية مزيفة. من المثير للقلق أن الثقافة نفسها باتت تُستخدم كقناع تُسخّر اللغة لصياغة نصوص لامعة لا تصنع موقفًا، بل تستهلكه كثيرون يتحدثون عن «الواقع»، ويستعرضون مفردات معرفية معقدة، لكنهم لا يلامسون جوهر المأساة. هؤلاء يستخدمون الثقافة كحيلة لغوية، لا كأداة مقاومة. يتقنون الغموض، يتفننون فى التبرير، ويتقنون المراوغة الأخلاقية. اللحظة الراهنة كشفت أكثر من أى وقت مضى كيف يتعرض الوعى الجمعى العربى للتشويه يُعاد تدوير الجريمة باسم «الضرورة»، ويُمسح الماضى وكأنه لم يكن، وتُزرع ذاكرة جديدة لا علاقة لها بالحقيقة، بل بمتطلبات اللحظة السياسية يُصنع الأبطال من بين القتلة، وتُرفع الشعارات فوق الدم، ويُغتال الحسّ النقدى لصالح الاصطفاف. ليس من الصعب معرفة أين يقف الحق الحقيقة ليست لغزًا غامضًا لكنها تحتاج من يملك الجرأة على تسميتها، من يملك الاستعداد لقول: «هذا ظلم، وهذا فساد، وهذا انحطاط»، حتى عندما يكون هذا الموقف مكلفًا. الكارثة أننا فى زمن لم يعد الدفاع عن الحقيقة فيه فضيلة، بل مخاطرة غير محسوبة، تُقابل بالإقصاء أو التشويه أو الاتهام بالخيانة. المثقف الذى يهرب من الموقف، ويتخفّى خلف الحياد، لا يخدع أحدًا. إنّه يعرف، ونعرف أنه يعرف، لكنه لا يقول. وهذا هو الجُبن المقنّع المثقف الحقيقى لا يُقاس بما يعرف، بل بما يختار أن يفعل بهذا الذى يعرفه من يختار الصمت أمام الظلم لا يمكنه أن يدّعى النبل ومن يجمّل القبح بلغة ناعمة، لا يستحق احترامًا. ومن يبرر العنف باسم المصلحة العليا، يكون شريكًا فى الجريمة، حتى وإن لم يطلق رصاصة واحدة. لذا يمكن تصنيف المثقفين اليوم إلى ثلاث فئات واضحة: 1- الفئة الرمادية: وهى الأوسع انتشارً أصحاب هذه الفئة يتقنون التهرب، لا يعلنون موقفًا، لا يعادون أحدًا، ولا ينصرون أحدًا لغتهم فضفاضة، مواربة، تصلح لكل موقف هم ليسوا محايدين، بل متواطئون. يحافظون على مصالحهم تحت لافتة «الواقعية»، ويتعاملون مع القضايا الأخلاقية باعتبارها ترفًا لا وقت له. 2- الفئة المؤيدة: وهى الفئة التى اختارت اصطفافها مسبقًا، وجعلت من التبرير مهنتها. هؤلاء يبررون القمع لأنه «من طرفنا»، ويهاجمون الضحايا إذا لم يتفقوا مع سرديتهم لا يرون إلا ما يخدم ولاءهم السياسى أو الطائفي. فقدوا القدرة على التفكير النقدي، لأنهم فقدوا حرية الضمير. 3- الفئة الثالثة: النادرة، المنفية، المهمّشة، وهى فئة المثقفين الذين يرفضون المساومة يقفون، يعترضون، يصرخون، ويُدفعون إلى الهامش لأنهم لا يسايرون رواية السلطة أو الحزب أو الطائفة. هؤلاء لا يعيشون فى الضوء، ولا تحت الأضواء، لكنهم يزرعون بذور الوعى فى الأرض اليابسة. فى كل هذا المشهد، لا يمكن تجاهل دور الطائفية كلاعب خفى فى تشكيل وعى كثير من المثقفين إنها لا تظهر دائمًا فى الشعارات، لكنها حاضرة فى الخلفية، تُوجّه الرأي، وتُحدّد الموقف قبل التفكير. الطائفية هنا ليست مجرّد انتماء، بل منهج فى الرؤية إنها تؤطر الوعي، وتُغلق منافذ التساؤل. حين تصبح الطائفة هى المرجع، ينهار التفكير الحر، ويُلغى الضمير لصالح الانتماء. وفى هذا كله، تغيب الثقافة بوصفها موقفًا. تذبل كقيمة، وتتحوّل إلى واجهة خاوية كثيرون يكتبون، يحلّلون، ينشرون، لكنهم لا يواجهون يملكون أدوات التعبير، لكنهم يختارون الصمت الثقافة، حين تنفصل عن الأخلاق، تتحوّل إلى نوع من الزخرفة الفارغة كلام بلا روح. نصوص بلا شجاعة إبداع بلا معنى. حين يصبح المقدّس هو الطائفة، أو الزعيم، أو الحزب، فإن الحقيقة تُغتال فى وضح النهار حين يكون المثقف أكثر حرصًا على «علاقاته» من حرصه على ضميره، فلا خير يُرتجى منه حين تُصبح النجاة أهم من الوقوف مع المظلوم، فالمعركة قد حُسمت لصالح القتلة. إن المثقف الحقيقى لا يهرب من الحريق، بل يدخل إليه بشجاعة لا ينتظر أن يتضح الاتجاه، بل يصنع اتجاهه لا يتبع الموجة، بل يقف ضد التيار عندما يقتضى الضمير. الثقافة ليست سلعة، والموقف ليس خيارًا تجميليًا. الثقافة الحقيقية هى أخلاق، والموقف الأخلاقى هو جوهر كل كتابة تستحق الاحترام. وفى النهاية، لا التاريخ يغفر للمهادنين، ولا الضمير يسامح الصامتين المثقف الذى عرف وسكت، الذى رأى وتجاهل، الذى صمت وناور، شريك أصيل فى الخراب وحده من تكلّم رغم الخطر، ورفض رغم العزلة، يستحق أن يُقال عنه: هذا مثقف هذا ضمير هذا صوت لم يُبع.