بالأمس كانت لنا فلسفة رائعة ونحن نواجه نوازل الدهر وفواجع الأيام..لقد كنا نضحك للآلام إذا ما زمجرت في وجوهنا، وكنا نتمايل معها ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تكسر عودنا، وكنا نغنى لها حتى تذهب ريحها..وتنكسر شوكتها..وينفرط عقدها..فترحل إذ لم تجد لها مكاناً بين نفوس مطمئنة صابرة، وقلوب قوية صامدة.
ولم يكن ذلك استسلاماً لها ولا ترحيباً بها ولا طرباً بقدومها، ولكنها كانت فلسفة سارية في حياتنا التقطتنا معناها ومبناها من جيل تعامل مع مفردات الحياة بمنتهى الاقتدار والتمكن، ذاك الجيل الذي لم يتخرج في جامعة ولا في مدرسة..لكنه جيل تخرج في جامعة الحياة الحقيقة، فحمل في عقله ووجدانه ثقافة إثبات الذات والقدرة على العيش وتحدى الصعاب بلا صراخ أو عويل.
قد كنا في سنين العمر الأولى نذهب إلى حقول القطن لنتلقط من فوق وريقاته بويضات سوف تنتج في الغد_ إن بقيت_ ديداناً مهلكة، وكنا نمكث تحت لهب الشمس شطر اليوم، نعانى حرقة الشمس، وألم العطش، ووجع الركوع على شجيرات القطن..نفحص أوراقها بمنتهى العناية..فإذا ما وجد الواحد منا إصابة على ورقة.. صاح مهللاً لينبئ من في الحقل عن مهارته ودقته..كنا نعانى ونقاسى، ورغم ذلك كنا نغنى للنسيم حتى يأتي ليرفع عن أجسامنا حرارة الشمس الجاثمة، وكنا نغنى حتى تأتى ساقية الفرقة بالماء فتطفئ نار العطش الذي شقق حلوقنا لبعض ساعات مرت وكأنها دهرا.. لقد كنا نُسعد أنفسنا ونُفلسف الألم حتى تغيب الشمس..لقد كنا نغنى ونحن نقاسى..ونضحك ونحن نعانى..وكنا نبحث عن السعادة في أتفه الأشياء.
ولما كبرت عظامنا، ونضجت أفهامنا، واتسعت عقولنا، تبين أن ذلك لم يكن من قسوة الحياة علينا، ولا من غلظة سكنت في قلوب الآباء تجاهنا، بل كان ذلك تدريب وتأهيل للتعامل مع الحياة التي لا تمضى على نسق واحد، فاليوم يسر وغداً عسر..واليوم فرح وغداً حزن، ولن تظل الحياة تضحك في وجوهنا طوال الوقت، فحتماً سيأتي يوماً تبكينا فيه، لأن هذا شأنها، ولذا كان لزاماً أن ندخل إحدى فصولها لنمحو أمية التعامل مع متغيراتها، أو ندرك على الأقل طريقة هجاء دروسها القاسية، ولذلك نمت في داخلنا نبتة الجَلَد والقدرة على التكيف والتحمل.
إن النبات الذي ينمو تحت حرارة شمس ..وتأرجحه موجات الرياح..وتلسعه قرسة البرد، يكون أقوى وأمتن، وأكثر قدرة على مواجهة الآفات، وأكثر اتصالاً بالأرض، وأعلى هامة في السماء..بل وأعلى إنتاجاً وأكثر عطاءً..والمثال هنا لتبيان البون الشاسع بين إنسان تربى على الترف والنعيم والتدليل..ولم يشعره والداه يوماً بمكابدة الحياة..ولم يشركاه يوماً في مسئولية البحث عن لقمة العيش..إنما ربياه على الأخذ بلا حساب وعلى الطلب بلا حدود، وبين إنسان تربى في أجواء الاعتدال..مأكلاً.. ومشرباً..وملبسا..ًوفكراً..وتعلم كيف يشارك..وتعلم كيف يتحمل المسئولية..وتعلم كيف يواجه الحياة..فأيهما بالله عليكم يكون أصلح لنفسه ومجتمعه ووطنه؟؟..تبدو الإجابة سهلة المنال..لكن تحصيلها يبدو من الصعوبة بمكان.
إن بناء النفس البشرية على الجلد والتفاؤل والرضا ضرورة اجتماعية وحياتية ملحة، بعدما بان لكل ذي نظر حجم هذا الازدياد المخيف لرقعة القلق واليأس خاصة في وسط الشباب، رغم أن مستوى المعيشة قد ارتفع عن ذي قبل عشرات المرات، فأصبحنا نأكل ونشرب ونلبس أفضل من الماضي..فماذا حدث؟..بات الإحباط هو السمة البارزة في كلام الشباب وفى أفعالهم فانصرفوا إلى توافه الأشياء تفريطاً، أو جنحوا إلى التعصب والتطرف إفراطا، وذاك مؤشر خطير يستوجب التحرك العاجل من مؤسسات المجتمع لتطويق نتائجه وآثاره ومعالجه دواعيه وأسبابه بشيء من البحث والدراسة.
يا سادة..لقد تبدل الحال غير الحال، فتحولت نفوس كثير منا إلى النقيض بزاوية مستقيمة، فخلعت بلا اكتراث رداء التفاؤل..وأسبلت بلا تمهل رداء التشاؤم، ثم أبت إلا أن تلقى بمنسأة الرضا في بحر الظلمات، وتقبض طواعية على جمر السخط والقنوط بلا اضطرار إلى ذلك.. أين رحل هذا الأمل الجميل الذي كان يملأ جوانحنا في مواجهة عاتيات الأمور؟..أين ذهب هذا التفاؤل الذي كنا نتحلى به في أحلك المواقف؟..أين هذا اليقين الذي كان يملأ قلوبنا بأن الفرج قادم من جوف الكرب لا محالة، والنور منبثق من باطن الليل الحالك لا شك؟..أين..وأين..وأين؟..لقد ذهب كل ذلك أدراج الرياح.
وليس من الموضوعي في هذا المضمار أن ننسب هذا التحول الكبير في أحوالنا النفسية إلى ظروف خارجية فقط، لأننا قد تغيرنا من الداخل إلى الأسوأ، إذ ذهبت عن قلوبنا معاني الحب والنبل والشهامة والإحساس بالآخرين، وجاءت مكانها مفردات شيطانية أصلت لمفهوم الكراهية والأنانية والخسة والنذالة....
فكيف لا تستعمر نفوسنا بعد ذلك جنود التشاؤم والسخط..وترحل عن قلوبنا جنود التفاؤل والأمل الجميل؟!
وأخيراً أقول..إن عين (السُّخط) تبدى المساويَ
هكذا تعلمنا حيث كنا نؤمن أن الألم يقع كبيراً..وينتهي صغيراً..فلا نجزع من هول وقوعه، بل كنا نتحلى بالإيمان حتى يتلاشى. والآن لا أدرى ماذا جرى؟!