السودان وعدالة المحكمة الجنائية الدولية خليل حسين من مفارقات العدالة التي تقودها المحكمة الجنائية الدولية بحق السودان ورئيسها عمر حسن البشير، أنها تحاول تكريس سوابق قانونية دولية لا محل لها من الإعراب في القانون الدولي الجنائي، إذ يبدو أنها محاولة لتكريس ازدواجية في التعامل مع قضايا تبدو في ظاهرها متشابهة رغم أن وقائعها ونتائجها مختلفة. ففي سابقة في العلاقات الدولية والقانون الدولي، وفي إحدى أخطر التعديات الخارجية على السودان واستقلاله وسيادته واستقراره السياسي، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو، توجيه أول مذكرة توقيف دولية ضد رئيس دولة السودان عمر حسن البشير، ذلك بعد ستة أعوام على تأسيسها، وأربعة ملفات فتحتها ولم تغلق أياً منها، و21 متهماً لم تتمكن من اعتقال نصفهم، ما يطرح سابقة مثيرة للجدل لا تتوقف عند حدود القانون. فما أبرز القواعد القانونية الواردة في النظام الأساسي للمحكمة وبالتالي هل تنطبق على الحالة السودانية ورئيسها؟ وماذا في الخلفيات القانونية وأبعادها السياسية؟ وما نتائجها وآثارها على العدالة الدولية المفترضة؟ تنص المادة (5) من النظام الأساسي للمحكمة على أن للمحكمة اختصاصاً في محاكمة من يرتكبون الجرائم التالية: أ- جريمة الإبادة الجماعية (تنص المادة 6 في هذا الصدد على أنه يدخل في جريمة الإبادة الجماعية قتل أعضاء جماعة ما، أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي شديد بأعضاء جماعة ما،...الخ). ب - الجرائم ضد الإنسانية (وتشير المادة 7 في هذا الصدد إلى أمثلة كالقتل والتعذيب، الإبادة، الاستعباد، الاغتصاب، الاستعباد الجنسي... الخ). ج - جرائم الحرب (ووفقاً للمادة 8: تتمثل تلك الجرائم في: الخرق الخطير لاتفاقية جنيف ،1949 الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف المطبقة في الصراع الدولي المسلح متضمنة نقل الدولة المحتلة لأجزاء من سكانها المدنيين إلى إقليم الدولة التي تحتلها، الهجمات المباشرة ضد التراث الثقافي.. الخ). وبصرف النظر عن الاتهامات التي وجهها مدعي عام المحكمة لويس مورينو أوكامبو لأول مرة إلى رئيس في منصبه، طالباً إصدار مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير تمهيداً لمحاكمته، وبمعزل عن خطورة التهمة البشير متهم بأنه “الرأس المدبّر" لإبادة جماعية منظمة في إقليم دارفور تفترض الضرورة الموضوعية الإضاءة على نقاط قانونية مهمة منها: - أن قرار المدعي العام يوجه ضد مواطن يتبع لدولة لم توقع على اتفاقية روما (2002) لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية. إذ تنص الفقرة الثانية من المادة 21 من اتفاقية روما بعدم صلاحية المحكمة تجاه المواطنين الذين يتبعون إلى دولة لم تصادق على الاتفاقية. - أن صلاحية المحكمة الدولية بحد ذاتها هي في غير محلها، فملف دارفور موضوع الاتهام كان قد أحيل إليها من مجلس الأمن في العام 2005 بالقرار 1539 في وقت تفرض فيه اتفاقية روما أن تكون أي إحالة من هذا النوع قائمة على قضية تهدد السلم والأمن الدوليين، أي قضية نزاع دولي وهي ليست حال دارفور، وإلا فلماذا لا تقحم المحكمة الدولية نفسها في كشمير والشيشان ومجازر “إسرائيل" في لبنان؟ - أن كلاماً سابقاً للمدعي العام، في شباط/ فبراير العام ،2007 اتهم فيه الوزير السوداني أحمد هارون وأحد قادة ميليشيا الجنجويد علي كوشيب، بأنهما المسؤولان الأكبران عن كل جرائم دارفور بين عامي 2003 و 2005 فكيف تغيّر الحال إلى توصيف الرئيس البشير بأنه هو المسؤول الأكبر عن جرائم دارفور منذ العام 2003؟ - لو سلمنا جدلاً أن العضوية في اتفاقية روما ليست شرطاً أو مانعاً لتطبيق بنودها، فلماذا والحال كذلك لا تطبق على الجنود الأمريكيين و"الإسرائيليين" الذين يرتكبون جرائم حرب في العراق وفلسطين ولبنان، والتي أعلنت الولاياتالمتحدة و"إسرائيل" رفضهما المصادقة عليها؟ وإذا كان الجانب القانوني لا ينطبق على حالة الرئيس عمر البشير فما الخلفية السياسية للقضية؟ المسألة الأولى تتعلق بشخص البشير بالذات، فهو واحد من قلّة من الزعماء العرب والمسلمين، ممّن تحوّل في السودان من رجل عسكري إلى رجل دولة سياسي، واستطاع التحرّك على طريق مملوءة بالألغام داخلياً وإقليمياً ودولياً، بهدف إقرار السلام في بلده رغم العقبات، محافظاً على استقلاليته من التبعات الأجنبية رغم التهديد والإغراء، ويكاد يكون الوحيد الذي لم تستدرجه مواقف عدائية في أحرج الظروف كالمشاركة في حصار عدائي أجنبي. المسألة الثانية وتتعلق بالسودان، فمع فلسطين والعراق، أصبح السودان من بين الدول العربية الدولة الأولى المستهدفة عالمياً بأقصى درجات الضغوط، لتفتيته وتقسيمه، وإضعافه أمنياً، والحيلولة دون نهوضه اقتصادياً واستقراره سياسياً. إن أولى التداعيات ستكون على الوضع في دارفور تحديداً وبدلاً من أن يكون سياق المسألة بداية حل، فسيكون بداية لتفجير أوسع وأكبر، أما الضحية الثانية فستكون قوات السلام الإفريقية والدولية ما يعني أن جولة من الفوضى قادمة على السودان من الصعب أن تنحصر فيه. ربما قدر العرب أن يبقوا الأوائل في تسجيل السوابق من كافة الأنواع، اليوم عمر البشير عبر المحكمة الجنائية الدولية، وقبله صدام حسين عبر محكمة جنائية عراقية خاصة، وربما غداً رئيس آخر عبر محكمة مختلطة، فإلى أين تسير العدالة الدولية ومحاكمها؟ وهل بات من صدقية يحتذى بها؟ إنها أسئلة محيرة تبحث عن أجوبة في عقول الشعوب العربية قبل حكامها. عن صحيفة الخليج الاماراتية 19/7/2008