د.رفيق حبيب تتشكل مواقف الجماعة القبطية في مصر من جملة ما يصدر عنها من مواقف وآراء، يعبر عنها بعض الرموز والهيئات، بجانب ما يصدر من الكنيسة من مواقف رسمية، وكذلك ما يصدر عن رجال الكنيسة من آراء، يضاف لذلك ما ينشر في المواقع القبطية على شبكة الانترنت، وأيضا ما يصدر عن الجمعيات القبطية في المهجر. ويفترض أن جملة هذه المواقف، ترسم صورة عن التوجهات السائدة لدى عامة الأقباط.
كما يفترض ضمنا، أن تمثل تلك التوجهات رؤى محددة تشكل التيارات التي تسود داخل الجماعة القبطية. ولكن المتابع لجملة ما يصدر من رموز ومؤسسات قبطية، يكتشف أنها تعبر عن الآراء السائدة لدى الجماعة القبطية، دون أن تكون مشكلة لأي تيارات بعينها داخل الجماعة القبطية.
مما يوحي بأن الجماعة القبطية في الوقت الحالي لا تنقسم إلى تيارات فكرية وسياسية واضحة، وبالتالي لا تتوزع على التيارات الفكرية والسياسية السائدة في المجتمع المصري.
وبقراءة المواقف القبطية المتنوعة، يلاحظ أنها أساسا تهتم بالشأن القبطي الخاص، وتنظر إلى الشأن العام من خلال القضايا القبطية الخاصة. بما يؤكد على أن التوجهات السائدة لدى الأقباط حاليا، هي توجهات خاصة بالجماعة القبطية وهمومها ومشاكلها واهتماماتها، بأكثر من كونها توجهات عامة.
وفي الكثير من القضايا العامة، نجد أن الآراء القبطية تعبر عن نفسها من خلال تأثير القضية العامة على القضية القبطية الخاصة، فإن لم يكن للقضية العامة علاقة بالجماعة القبطية وشئونها، نجد تراجعا في اهتمام الأقباط بتلك القضية. وهذا يعني ضمنا، أن الرأي العام السائد لدى الجماعة القبطية انحصر في الشأن الخاص، وتراجع اهتمامه بالشأن العام.
وإذا حاولنا رصد المواقف والآراء القبطية، والتي يتم تداولها في وسائل الإعلام المختلفة، سنجد أن جملة تلك الآراء، لا تشكل إطارا فكريا أو سياسيا أو اجتماعيا متسقا، بل يغلب عليها الازدواجية، أو الثنائية. فبعض المواقف تدفع بوضوح في اتجاه العلمانية، بوصفها الحل والسبيل الوحيد لحل مشاكل الأقباط، أو بوصفها الوسيلة الوحيدة لتحقيق المواطنة والمساواة.
وتظهر تلك المواقف بصورة واضحة، في الموقف من المادة الثانية من الدستور، والخاصة بالشريعة الإسلامية. حيث نجد العديد من المؤشرات التي توحي بأن هناك موقفا سلبيا داخل المجتمع القبطي تجاه مرجعية الشريعة الإسلامية، وتجاه أي محاولة لتطبيقها.
يضاف لهذا الموقف السلبي المنتشر داخل الجماعة القبطية تجاه الحركة الإسلامية، والذي يعني أن أغلبية الجماعة القبطية ترفض العمل السياسي للحركات الإسلامية، كما ترفض الدور العام لتلك الحركات. بل أن بعض المواقف توحي بأن الرأي السائد داخل الجماعة القبطية يميل لتأييد كل محاولات عزل وإقصاء الحركات الإسلامية.
ومعنى هذا، أن الرأي القبطي الغالب يميل لموقف يحرم الحركات الإسلامية من حقها في التواجد والعمل، ويحرمها من حقوق المواطنة والمساواة. كما يحرم الجماهير من أن تؤيد الحركات الإسلامية، أو تدعمها في الانتخابات لتوصلها إلى الحكم.
وهنا نلمح التعارض الأول، حيث أن المواقف القبطية تتبنى مسألة المواطنة والمساواة، باعتبارها القيم والقواعد التي تحل ما يراه الأقباط من مشكلات تواجههم، ولكن الموقف المعادي من الحركة الإسلامية، يعني أن تلك المواطنة لا تشمل كل المجتمع المصري، بل تشمل فقط المؤيدين للطرح العلماني.
وكأن الانتماء للتيار الإسلامي، يمثل تهمة تسقط حق المواطنة.
ومن جانب آخر، نجد أن هناك العديد من المواقف القبطية الرافضة لممارسات النخب العلمانية، والتي تؤيد حرية التعبير في الشئون الدينية. فهناك العديد من المواقف التي أظهرت أن الرأي السائد لدى الجماعة القبطية، يرفض أن يكون الدين محلا لحرية التعبير.
وهنا نجد التعارض الثاني، لأن الموقف المؤيد للعلمانية من جانب الأقباط، يحصرها في حدود تجعلها عملية علمنة ناقصة أو جزئية، وهو موقف انتقائي.
وإذا تابعنا بعض المواقف القبطية من المواد المنشورة والتي تتعرض للدين المسيحي، سنجد ميلا واضحا لمحاسبة كل ما يعتبره الأقباط ازدراء بالدين المسيحي. وممارسة عملية المواجهة ضد ازدراء الأديان، لا تدخل في المفهوم العلماني للمواطنة وحرية الرأي، بل هي تعارض القيم العلمانية، كما تعارض المفهوم العلماني للحرية الفردية. وهذه المواقف القبطية تدخل في نطاق تطبيق المرجعية الإسلامية، والتي تحمي الأديان السماوية من أي هجوم عليها، وتعتبرها شأنا مقدسا.
فتهمة ازدراء الأديان، نابعة من مرجعية الشريعة الإسلامية، وهنا يظهر التعارض الثالث في المواقف القبطية.
يضاف لهذا، الموقف القبطي الكنسي الرسمي، والذي يؤكد على حتمية احتكام الأقباط للشريعة المسيحية في الأحوال الشخصية، وعدم قبول أي قانون أو إجراء يتعارض مع الشريعة المسيحية.
رغم أن التشريع في النظام العلماني هو حق للمجلس التشريعي فقط، حتى وإن شرع ضد الشريعة الدينية. ولكن هذا الموقف القبطي ينحاز إلى مرجعية الشريعة الإسلامية، والتي تؤكد على أن ضرورة أن يحتكم المسيحي واليهودي لشريعته في الأحوال الشخصية.
وبهذا نجد مواقف قبطية تدعو لإلغاء المادة الثانية للدستور الخاصة بالشريعة الإسلامية، ومواقف أخرى تحتكم للشريعة لحماية التزام المسيحيين والكنيسة بالشريعة المسيحية في الأحوال الشخصية، وهذا تعارض آخر.
قد يظن البعض أن هناك اتجاها داخل الكنيسة يؤيد العلمانية، وآخر يؤيد الخصوصية المصرية القائمة على الاحتكام للدين. ولكن الواضح أن كل تلك المواقف تعبر عن اتجاه واحد، هو اتجاه يريد العلمانية في مجال، ويريد الإسلامية دون ذكرها، في مجال آخر.
وهنا مكمن المشكلة، لأن تأثير المواقف القبطية على المجتمع المصري، أصبحت تنشر حالة من الازدواجية، تؤدي إلى قدر من الاضطراب في موقف المجتمع من تلك المواقف القبطية، كما تؤدي إلى تشكل اتجاه سلبي تجاه تلك المواقف.
فمجمل الصورة يعني أن هناك مواقف قبطية، تريد تشكيل المجال العام بصورة تناسبها، رغم أنها صورة متعارضة ولا يمكن تنفيذها. لهذا نجد توجهات قبطية تقوم على المرجعية الإسلامية، وفي نفس الوقت نجدها ترفض حق الحركات الإسلامية في العمل السياسي والعام.
ونجد توجهات قبطية تقوم على المرجعية العلمانية، وفي نفس الوقت ترفض تأييد النخب العلمانية وأحزابها.
لهذا نتصور أن الرأي العام السائد لدى الجماعة القبطية يحتاج إلى توسيع اهتمامه ليرى الصورة الكاملة للمجتمع المصري، حتى تتشكل داخل الجماعة القبطية اتجاهات تندمج مع الاتجاهات السائدة في المجتمع وتتوافق معها، وتكون تلك هي بداية خروج الجماعة القبطية من عزلتها.