تركيا.. قرن آخر من الصراع محمد نور الدين ربما من المستغرب أن يلجأ البعض في تركيا الى تشبيه تركيا بنماذج أخرى، والقول انها ربما تكون على خطى ان تكون مثل يوغسلافيا مثلاً أو العراق أو حتى لبنان.
ففي الاسبوع الماضي كانت تركيا مسرحاً لأكبر عملية قبض على تحركات فوضوية كان يقف خلفها جنرالات متقاعدون للتو من وظائفهم، ولكن ليس أي جنرالات.
فأحدهم الجنرال خورشيد طولون كان قائداً لجيش بحر إيجه والآخر الجنرال شينير اراويغور كان قائداً للدرك.
والى هذين، صحافيون معروفون ورجال اعمال وباحثون. كلهم انضووا تحت ظل منظمة اسمها “ارغينيكون"، وهو اسم لأسطورة وطنية تركية، وصفها القاضي الشجاع زكريا أوز بأنها منظمة إرهابية تعتمد العنف لتحقيق اهدافها وتفضي بأركانها الى السجن المؤبد.
المنظمة كانت تسعى الى الإطاحة بحكومة رجب طيب اردوغان عبر زرع الفوضى في البلاد يوم السابع من تموز/يوليو الجاري، ليتدخل الجيش في اثرها مستلماً السلطة.
حتى الآن ليس من معطيات تؤكد، أو تلمح الى احتمال ان يكون للمنظمة امتدادات داخل الجيش. لكن محمد بكار أوغلو النائب السابق في حزب الفضيلة، والذي يقود اليوم تياراً اسلامياً يسارياً دعا الى التحقيق العسكري في هذا الاحتمال.
تحمل احداث تركيا في الايام الأخيرة اهمية متعددة. فللمرة الأولى يعتقل فيها جنرالات على هذا المستوى الرفيع. ورغم انهما متقاعدان لكنها سابقة في تاريخ تركيا التي تبرز كونها نموذجاً في هيمنة العسكر على الحياة السياسية.
فهذه الخطوة قد تعتبر مسّاً ايضاً بهيبة العسكر. فالجنرالان تقاعدا قبل سنة ونيف وهما يحملان تربية عسكرية على امتداد عمرهما. فإذا كانت هذه التربية قد انتهت بهما الى تزعم منظمة إرهابية، حسب اتهام القاضي اوز لهما، فهذا يعني ان المؤسسة العسكرية تربّي ابناءها على اعتماد اساليب الإرهاب، إن تطلب الأمر ذلك.
ولا يمكن القول إن الجنرالين قد تقاعدا ولم يعودا في المؤسسة العسكرية. فطريقة التربية العسكرية في الجيش التركي تحديداً، ولا سيما للضباط الذين يرتقون الى المناصب العالية، صارمة جداً بحيث لا يمكن للضباط حتى بعد تقاعدهم ان ينحرفوا عن العقيدة التي تربوا عليها.
حتى الآن تلتزم رئاسة الأركان في الصمت. وهي معنية مباشرة بما يحدث لأنه ينال من هيبتها واحترامها. وكان عليها على الأقل أن تصدر بياناً تترك للتحقيق والقضاء أن يأخذ مجراه. علماً ان المؤسسة العسكرية كانت السباقة الى الادلاء برأيها في كل شاردة وواردة من الحياة السياسية.
وما يجري في تركيا هذه الأيام مهم برأينا، لأنه يعطي دفعاً الى الأمام للمؤسسات السياسية لمنع تدخل الجيش في السياسة أو إضعاف هذا التدخل. ومع أن الأمل بذلك، تبعاً للتجارب، ليس كبيراً، لكن رب ضارة نافعة.
ولا شك في ان الجميع وضع ما يجري في اطار الصراع بين “دولة حزب العدالة والتنمية" و"دولة الكماليين". فالجميع ايضاً ينتظر قرار المحكمة الدستورية بشأن اغلاق حزب العدالة والتنمية خلال شهر ربما من الآن. وربما سرّعت المحكمة الدستورية من قرارها لإعادة ترتيب الأولويات السياسية وحرف النظر عن فضيحة منظمة “ارغينيكون" في اتجاهات اخرى. وربما تدفع الاعتقالات الاخيرة المحكمة الدستورية الى تأكيد الاحتمال الشائع بحظر الحزب.
وعلى هذا، بدأ صيف تركيا ساخناً جداً وقد يصير ملتهباً مع صدور قرار المحكمة الدستورية.
تؤكد تركيا من خلال قضية منظمة “ارغينيكون" انها لا تزال بعيدة عن الاستقرار. وما يجري هو صراع تاريخي بين اتجاهين احتد منذ تأسيس الجمهورية على أسس متعارضة مع المزاج الشعبي وصفها احد قادة حزب العدالة والتنمية ب “الصدمة" ما أثار سخط العلمانيين عليه.
وأثبتت تطورات القرن العشرين وحتى الآن، ان تركيا نموذج قائم بذاته لكن ليس للاقتداء وليست بحاجة لتشبيهها لا بيوغسلافيا ولا بلبنان، وأن الصراع بين تيّاريها عميق جداً، إذ يتصل بالخيارات وقد يمتد قرناً آخر للأسف. عن صحيفة الخليج الاماراتية 14/7/2008