ثورة يوليو ليست كمثل كل الثورات د. سامية خضر صالح عندما تتم الإشارة إلي أحداث الماضي فذلك لان التعرف عليه هو عملية أساسية لفهم الحاضر إعدادا وتحضيرا لمستقبل افضل, ويعتبر ذلك من أهم العناصر التي توضح تغير الوضع الاجتماعي والسياسي والقومي وكيفية بناء دولة حديثة وقوية, وهذا مايفسر دوران المطابع والتسجيل عالميا للتاريخ, كما أن إفساح المجال لتوعية وتوصيل المعلومات لأجيال من النساء والذكور هو ماتقوم به دول تريد أن تحفز مواطنيها للرغبة في التعاون والمشاركة والافتخار بأنهم ينتمون لأمة بعينها وبذلك لا تنفصل أجيال عن اجيال ولاتزيد الهوة بين جيل عاش وعاني وفرح وحزن وترقب ووصل, وجيل يعبث في فراغ المحيط بين السماء والأرض وبين الأمل والإخفاق وبين الانتماء والذعر والتعصب واللاشيء, إن الرجوع للوراء لمتابعة الزمن الذي صنع الأمجاد واللحظات الفارقة أمر هام, وان الاحتفال بثورة23 يوليو1952 هو إحياء لذاكرة الشعب المصري ولشعوب عديدة تأثرت بتلك الثورة. أو لم نتابع كل يوم عددا من الأفلام والمسلسلات تحكي لنا قضايا قومية فجرتها ثورات دول عديدة لأبطال ومفكرين خاصة عن الحربين العالميتين الأولي والثانية وصقورهما وثعالبهما وحمائمهما, إنها كلها دروس مستفادة وضرورية, ومهما تكن الهنات والسلبيات فان ذلك لايمحي الدفعات والخطوات العظيمة لبشر سطروا علي صفحات الزمن بمواقفهم وبدمائهم قرارات صعبة. وهكذا كان نبوغ ثورة يوليو1952 هو نتاج غليان قديم ربما منذ ثورة عرابي وثورة1919, إذن فان عبد الناصر ورفاقه هم من نبت تجارب رجال ونساء من قبل حتي مصطفي كامل ومحمد فريد وغيرهم فليست هناك ثورة ابنة لحظتها بل هي تتخلق علي مدي دهر من الزمان تتجمع فيها ذرات من الأحداث والمنطلقات لتخرج حين تسمح الظروف بذلك, إن ثورة23 يوليو هي ابنة مراحل طويلة لأجيال طالبت بالحرية والعدالة والمساواة ورفع الظلم عن البؤساء المحتاجين, فمنذ أن اهتم محمد علي بوضع الأساس الثقافي لضمان استمرار الإصلاحات التي قام بها عن طريق تكوين فئة من المتعلمين والمهنيين المصريين الذين يمكن أن يكونوا هم أنفسهم حماة هذه التغيرات ليكسبوها قدرا من الاستمرار, ظهرت صفوة صاعدة حيث تعتبر بعثة الأنجال وعلي رأسهم إمام البعثة رفاعة رافع الطهطاوي جزءا منها, فحين عودته من باريس هالته الفجوة الحضارية مابين مصر وفرنسا واراد أن يوقظ الشعب المصري من سباته. فكانت مطالبته بالتغيير الاجتماعي الثقاقي لتقريب المسافات. وفي آخر عهد إسماعيل تحكمت الأزمة المالية في البلاد وأثرت علي الحركة الفكرية, ثم اقبل عهد العرابيين واضطربت مصر وشغلت بالتفكير بنظام دستوري واحتل الإنجليز البلاد عام1882, وانطلقت ثورة1919 لتظهر توحيد الوطن علي فكر واحد مصري الأصل من شيوخ وشباب ذكور وإناث مسلم ومسيحي, وظل ذلك البركان متوهجا حتي كانت ثورة يوليو1952 ولم تكن ثورة23 يوليو مثل كل الثورات. كانت ثورة كتب لها أن تمر بسلام, وكانت لها أهداف نبيلة فضلا عن أنها كانت ثورة بيضاء اختلفت كثيرا عن الثورة الفرنسية مثلا, وإن امتلكت نفس التأثير علي الأقل علي دول القارة الإفريقية والآسيوية... وفي الوقت الذي كانت فيه الثورة الفرنسية دموية كانت ثورة يوليو ثورة بيضاء بلا دماء. وفي الوقت التي تخلصت الثورة الفرنسية من ملوكها ونبلائها تحت المقصلة خرج ملك البلاد فاروق الأول معززا مكرما تحييه طلقات المدافع العسكرية وهو يركب يخته الملكي المحروسة الي منفاه الذي اختاره بإرادته. وتأكد مع خروج ملك مصر السابق أنه إذا أراد الشعب الحياة فلابد ان يستجيب القدر ولابد للقيد أن ينكسر ولابد لليل ان ينجلي حقا فلم يكن توقيت الثورة معروفا ولم يكن احد يعرف متي وكيف, فقد ازدادت العمليات الفدائية ضد الثكنات العسكرية للإنجليز إيذانا ببزوغ الثورة والتي جاءت بقيم حفظها الشعب عن ظهر قلب مثل: الاتحاد والنظام والعمل ومثل: العمل واجب والعمل شرف والعمل حق. وكانت فكرة الثورة تتلخص في أن الأمل الحقيقي هو استمرار النضال ومواصلة التقدم ووجود جيل جديد أكثر وعيا واكثر صلابة واكثر طموحا, وانتشرت مفاهيم تؤكد أن الإنسان الثوري رقيب أصلي علي نفسه في حدود منظومة المجتمع واهداف عمله, وان نجاحه الأكيد هو حريته في انطلاق ملكاته الخلاقة خدمة لعمله دون خوف ودون الالتفات إلي الوراء بل الاتجاه الدائم إلي الأمام. وقد حرصت الثورة علي الاهتمام بالمواطن الفلاح والعامل. وتقرر أن يكون للجميع حق العلاج وحق التعليم وحق التأمين ضد الشيخوخة وفي حالة العجز, وتم توصيف المجتمع المصري بأنه يشمل كل فرد يعيش علي تربة الوطن وترتبط آماله وأحلامه مع غيره من المواطنين من أجل غد عزيز للأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد. لقد مرت ثورة يوليو بكثير من التحديات الكبري بعد ظهورها فقد كان العالم ينقسم إلي عدد صغير من الدول الغنية وقد أتخمت بسيطرتها علي أعداد كبيرة من الأوطان لتمتص خيراتها, وقد أضحت جزءا من ممتلكاتها ليس لدي مواطنيها الحق في الشعور بأنها تتملك الوطن أو الأرض فكل أجنبي هو حماية. وكانت انجلترا هي إمبراطورية لاتغرب عنها الشمس, أما فرنسا فقد جثمت علي صدر أعداد من الدول التي أصبحت ناطقة باللغة الفرنسية وكان مواطنوها هم مجرد أنفار يعملون لصالح المستعمر, أما إسرائيل فبعد حصولها علي وعد بلفور فقد أصبحت الابنة المدللة للقوي الاستعمارية حيث تغلبت علي الجيوش العربية عام1948, وفي وسط خضم الشعور بالغضب نمت خلية من العسكر المثقفين والذين ارتووا بكل تلك الأحداث فكانت انطلاقة.. ثورة يوليو والتي شكلت في البداية مجلس قيادة الثورة برياسة اللواء محمد نجيب ثم أخذ جمال عبد الناصر القيادة ليضع أهداف بناء دولة حديثة تناصره جماهير مصر التي كانت متعطشة لخروج الإنجليز الذين دنسوا ارض الوطن واستباحوا خيراتها وليعم الخير علي الجميع. ولكن لم يلبث أن صعب علي المستعمر فكرة الجلاء فعاد مرة أخري بكل معداته العسكرية متضامنا مع فرنسا وإسرائيل في عدوان ثلاثي حيث شعرت بريطانيا بإهانة إمبراطوريتها العظمي كما اتفق ذلك مع القلق الفرنسي من قوة مشاعر القومية العربية خاصة أن موجه التحرر قد وصلت إلي أقصي بلاد المغرب العربي بالجزائر. ورغم شراسة المعتدين فقد شهد العالم شجاعة وكفاح ونضال شعب مصر ولقنتهم بورسعيد درسا لم ينسوه وفشل هذا العدوان الذي استغرق120 يوما. وقد تميزت تلك المرحلة بصمود الإرادة المصرية وشعور فياض بالتمسك بأرض مصر الحبيبة واستمرت التنمية فكان بناءالسد العالي وهو تحد جبار كذلك ظهرت دول عدم الانحياز والتي كان لها وزن سياسي عظيم كما توالت الإنجازات ولم تكن آخر التحديات... ولكن القوي العظمي كانت دائما بالمرصاد فكانت نكسة عام1967 والتي أوقفت مسيرة التنمية لكنها لم توقف مسيرة التدريب المستمر والاستعداد للثأر واستعادة الأرض, فكان نصر أكتوبر1973 علي أيدي أبطال أشداء استعانوا بالتخطيط العلمي وعزيمة الرجال وكفاءة القيادات, فكانت ضربة الطيران والتي تبعتها عبور القوات المصرية التي طال انتظارها لتلك اللحظات فسطرت بدمائها نصرا أكيدا, وهكذا ستظل مصر دائما للمصريين بكل فئات الشعب.... عن جريدة الاهرام المصرية 28/7/2007