سياسة الخداع ومحامي الشيطان د.محمد قيراط «ماذا حدث داخل البيت الأبيض» عنوان الكتاب الذي أصدره المتحدث السابق باسم البيت الأبيض الأميركي سكوت ماكليلان والذي يُعتبر شهادة من داخل كواليس السياسة الأميركية، تكشف تفاصيل صناعة القرار السياسي وتفاصيل التضليل والتعتيم والتلاعب بالمعطيات والمعلومات للسيطرة على الرأي العام المحلي والدولي. سياسة الخداع كما يسميها ماكليلان سيطرت وهيمنت على القرار السياسي الأميركي في مرحلة، تعتبر من أهم وأخطر المراحل في السياسة الخارجية الأميركية على الإطلاق.
إذ إن هذه الحقبة شهدت تحولات جذرية في العلاقات الدولية حيث انفردت الولاياتالمتحدة الأميركية بإدارة مصير العالم وتطويع منظمة الأممالمتحدة لقبول قرارات لم تكن سليمة على الإطلاق وقرارات كانت تداعياتها وانعكاساتها خطيرة جدا على عدد من الدول ومن شعوب منطقة الشرق الأوسط.
الكتاب يشير إلى تضارب في القول والفعل لصحافي وناطق رسمي للبيت الأبيض كان من واجبه تقديم الحقيقة والاستقالة من الوهلة الأولى والانحياز لمصلحة الشعب الأميركي وللحقيقة بدلا من الاشتراك في جريمة الكذب والخداع والتلاعب بالعقول.
لكن يبدو في واقع الأمر أن سكوت ماكليلان انحاز للمؤسسة التي تعطيه راتبا نهاية كل شهر وهذا ما يعني أن كتابه وحتى ولو يعتبر شهادة من الداخل وجرأة في تقديم الحقيقة إلا أنه كتاب جاء متأخرا ليعكس أن مصلحة السلطة هي فوق كل اعتبار في عالم لا يؤمن بالرأي العام بل يؤمن بالتلاعب بالعقول لاستعمالها في تشريع قراراته وتصرفاته.
سكوت ماكليلان، أو محامي الشيطان، مؤلف كتاب «ماذا حدث في البيت الأبيض»، صال وجال في البيت الأبيض ودافع بشراسة على سياسات بوش وإدارته لشؤون أميركا والعالم ومن أهمها قرار الحرب على العراق وبعد كل الضرر الذي أحدثه هذا القرار للشعب الأميركي ولدول وشعوب العالم، يأتينا بهذا الكتاب وبهذه الحقائق. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو لماذا لم يقدم ماكليلان استقالته من منصبه عندما لاحظ ثقافة الخداع والتضليل والتعتيم والتلاعب بالمعلومات من أجل تسويق حرب لا حاجة للشعب الأميركي بها.
ولماذا وافق ماكليلان كل هذه الفترة على القيام بالدفاع عن الشيطان وعن سياسات يرفضها جملة وتفصيلا ولا يؤمن بها.
تتحدد إشكالية الكتاب في أن قرار الحرب في الدستور والأعراف الأميركية لا يتم إلا إذا تطلبت الظروف ذلك، وإلا إذا كانت الحرب ضرورية ومبررة ولها أسبابها وحججها. الظروف الموضوعية التي كانت سائدة أثناء مرحلة ما قبل الحرب لم تكن مؤهلة وكافية لشن الحرب على العراق.
لكن صقور البيت الأبيض وعلى رأسهم ديك شيني استطاعوا من خلال استخدام «ثقافة الخداع» أن يضللوا الرأي العام الأميركي والعالمي والاقتناع بقبول قرار الحرب والموافقة عليه. فالبيت الأبيض لجأ إلى كل الطرق والوسائل من دعاية وأكاذيب وأساطير ومن تضخيم خطر القاعدة وأسلحة الدمار الشامل وغيرها لتبرير الحرب وجعلها حتمية لإنقاذ أميركا والعالم من خطر داهم من شأنه أن يعصف بالعالم بأسره ويفتك بالبشرية جمعاء.
فتسويق الحرب على العراق تم من خلال أكاذيب وحملات ترويجية تسويقية دعائية تقوم على معلومات خاطئة وردت من المخابرات المركزية الأميركية التي كانت تحصل على معظم معلوماتها من المعارضة العراقية في الخارج التي كانت بدورها تحلل الواقع وتقدم المعلومات بناء على العواطف والأمنيات وليس على ما هو موجود في أرض الواقع. ويرى ماكليلان أن موضوع الحرب على العراق كان المفروض أن يتم من خلال المناقشات المفتوحة ومشاركة الفضاء العام خاصة وسائل الإعلام والنخبة المثقفة للوصول إلى الحقيقة ومن ثم مساندة قرار الحرب أو معارضته.
مع الأسف الشديد قرار الحرب تم في جو من التواطؤ الكبير بين وسائل الإعلام والبيت الأبيض، حيث استطاعت إدارة بوش تمرير خطابها وأكاذيبها أمام أعين ومسامع الإعلام الأميركي، الذي كان من المفروض أن يكون كلب الحراسة ومراقب السلطة والجهة التي تستقصي الحقائق وتتأكد من صحة القرارات التي تتخذها السلطة في المجتمع.
فالإعلام الأميركي الذي يدعي البحث عن الحقيقة والكشف عنها وتوفير منبر حر للرأي العام ليناقش القضايا المصيرية في المجتمع وإبداء رأيه فيها والمساهمة في صناعة القرار، أصبح بدلا من كل هذا طرفا في معادلة الخداع والتزييف والتضليل وإخفاء الحقائق.
وبهذا التلاعب الفظيع الذي يتنافى ويتناقض جملة وتفصيلا مع أسس ومبادئ الديمقراطية، استطاعت إدارة بوش الإعلان عن حرب غير مشروعة وغير مبررة والزج بعشرات الآلاف من الشباب الأميركي في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
يتساءل ماكليلان عن من هو المسؤول عما حدث في البيت الأبيض وهنا يشير الكاتب بأصابع الاتهام إلى جهات عديدة من أهمها بطبيعة الحال إدارة بوش والحزبان الديمقراطي والجمهوري وقادة جماعة الضغط والقائمون على الإعلام حيث إن الجميع لم يقم بدوره كما ينبغي بل انخدع وأصبح طرفا في نشر ثقافة الخداع والتسليم بكل ما يُنشر ويُبث بدون أدنى مساءلة أو استقصاء أو تشكيك.
وهذا ما ساعد على نشر الكثير من الأكاذيب والتلاعب بالكثير من المعطيات للوصول إلى هدف واحد هو تسويق الحرب للجميع وخاصة الرأي العام الأميركي والدولي. هذه الظاهرة جعلت الكثير من المختصين يتساءلون عن دور الفضاء العام والنخب المثقفة ووسائل الإعلام الأميركية في مواجهة سلطة المال والسياسة في المجتمع.
فالواقع يؤكد أن الجميع-أحزاب سياسية، معارضة، جماعات ضغط، مؤسسات إعلامية، فضاء العام، الرأي العام - الكل استسلم ل «الإستبليشمنات» Establishment وللوضع الراهن Status Quo، والنتيجة في نهاية المطاف هي انهزام الحقيقة والحكم الراشد والقرار السليم أمام التضليل والتعتيم والتلاعب والخداع. عن صحيفة البيان الاماراتية 2/7/2008