أقام نادي 14 تموز وإتحاد كتاب عراقيين في ستوكهولم ندوة عن إشكالية المثقف والسلطة مع ذكرى اغتيال الشخصية الوطنية العراقية كامل شياع دُعي إلى منبرها الروائي المعروف برهان الخطيب، د. صالح ياسر رئيس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة" وآخرون. "العرب" ينفرد بنشر خطاب الروائي الخطيب في الجالية العراقية التي كانت حاضرة تلك الأمسية. من أين يحسن أن نبدأ الكلام حين نجد أنفسَنا أمام بل في كارثة؟ من ذبٍّ اللومِ على هذا أو ذاك باعتباره من مسببيها؟ لمزيد من تنكيل وإيغال في الكارثة؟ أو نحاول تبيّن علامات وأسباب نشوء الكارثة وديمومتَها لدرئِها؟ مفهوم تمني تاجر سلاح، من اليمين كما يقال، أن تتفاقم الكارثة، ليبيع ويربح، لكن غير مفهوم تماما معارضة يساري للاستقرار، إلاّ إذا كان يشتغل لذلك التاجر، وهو يدري أو لا يدري. قوله كان: لا نريد الاستقرار، نريد قلب العالم لتجديده. واضح، هو لا يؤمن بتغيير العالم عن طريق تغيير النفس، النفس برأيه محكومة بظروف، بواقع، يجب أولا تغييرهما لتغير النفس. كيف تغير ذلك اليساري نفسه، تحول من العادية إلى الثورية، هذا سر، هو فلتة ربما. قلت في نفسي يا أيها الثوري المطلق كما نرى على كل التأريخ، التأريخ المنفي عن صنّاعه الحقيقيين المفترَضين، المثقفين ذوي الذمة والكسبة والعمال، دعوتك هذه يا عزيزي، رفض الاستقرار، تعني على كل منا التخلي عن بيته؟ الجواب كان: ليتخلى عنه، الشعر والمغامرة والمجهول هو الوطن الحقيقي لإنسان حقيقي. أيها الروائيون وأنت منهم اكتبوا عن فضاء النفس غير المحدود، لا عن عائلة أو وطن مسدود، مغلق على أهل جهلة، اكتبوا عن نساء ورجال متفردين، يجدون أنفسَهم في تمردهم، عن عسل منتظر عن علاقات حب و لب و دب.. قلت ستوب، لحد الآن كلام جميل، مقدرش أقول حاجه عنه. هكذا غنت صاحبة المسلسل المعروض، ليلى مراد، لم أسموها، هي ليست طبعا لمة مجلس، ولا لجنة مركزية، الاحترام مضمون، تقيسه صناديق اقتراع، لو جاءت النتائج غير مرجوة، كما لشخص في حال افتراع، حاسب المخذول النبيه نفسه، أجدى من محاسبة غيره، على ما هو واقع فيه، من خلط الألوان والأشكال عليه. وأنتم يا شعراء الوطن والعالم، أضاف الثوري، أنتم أيضا كسّروا المعنى والترابط والإيقاع، في ذلك كثير من الحرية والانتفاع. كثرة مضت بعيدا على ذلك الطريق وأسموه الإبداع، فماذا تبين، وماذا يشاع، ماذا كان ليقول عن ذلك الراحلُ كامل شياع؟ إنه أمر مؤكد لي لم يرض عنه، الوطن اليوم في حال ضياع. في ذلك أرى أيضا أحد أسباب رحيله المبكر المحزن، بهجمة من ضباع. تفكيرنا من نوايانا، ونوايانا من تفكيرنا، لكن هناك تفكير سابق، قد ينقضه تفكير لاحق من غربلة تجربة ووعيها أفضل، من ظهور حقائق جديدة، هكذا تتغير النوايا والتفاهمات وتتجاوز شعوب محنَها. نحن في العراق ما راجعنا كما ينبغي تجربتَنا، خاصة أحزابه، مؤسساته الثقافية والمدنية، لو كانت فاعلة حقا، كان على وزارة الثقافة واتحاد الأدباء المساهمة بغربلة تأريخ العراق الحديث واستخلاص عبره في الأقل. حتى اليوم، أسباب الكارثة، المتجذرة إلى حوالي نصف قرن، تكاد تبقى رغم كل ما كتب مطمورة، تحت ركام الصحف والمواقع الالكترونية، بقينا نذب اللوم على هذا الحزب وذاك، ونوسع حدود الكارثة. ولو راجعناها.. وعرفنا جديدا.. من أين الشجاعة لكشف الخطأ أمام العالم وتصويبه، وبعض الشجاعة رأينا نصيبه، قتلا في وضح النهار لكامل شياع ونخبة من مثقفي وأكاديميي وطياري العراق؟ الاستسلام للخوف إذن؟ التسليم لفكرة دع النار تلتهم وتطهر ما تريد، عسى الأمور تصفو ويُبنى بعد حين الجديد؟ الوعي، مع تمسك بقيم عليا، قد يقود إلى تضحية بالنفس رأينا، والوعي مع تمسك بقيم دنيا يؤدي إلى تدليس وتسييس فوضى، وعي عن وعي يختلف، هذا واضح، كما جاء في فوضى خلاقة وغيرها، لم لا، إذ كان الحساب يُدفع من البعيد، وينجو مَن على قمة هرم. في مسعى لإنارة ظلمات وضعنا الثقافي والسياسي، خاصة موضوع المثقف والسلطة، موضوعنا اليوم، كُتبت عشرات بل مئات المقالات، قبل وبعد مقتل شياع، وما زال يُقتل عشرات، وما زالت تُكتب مقالات، هل تبقت جدوى من الكلمات؟ لماذا نواصل الكلام؟ نعم، اليأس قد يطغى على هذه الذات، لكن الأمل باق في أخرى، هكذا تبقى ذات الوطن حية دائما، تدافع عن نفسها بشتى الطرق والأساليب. * المثقف بين السكون والديناميكية طريق نجاة من كارثة مرسوم، في هذا المقال أو ذاك، غيره، لماذا لا يتم اللجوء إليه؟ أسراب خيول وحمير وجاموس تبقى جماعات حين يهاجمها وحش، تدافع بعضها عن بعض بطرقها الخاصة، تخسر واحدا نعم، لكن القطيع يسلم في النهاية، ومعه امتداد المفقود. نحن البشر في العراق تفرقنا حتى قبل أن يهاجمنا الوحش، ظنا بالتفرد والانعزال والجري في مروج غريبة منجى لطائفة أو حزب أو عرق. ذلك وهم من أوهام تلبستنا في غياب المعلومة الصحيحة والرؤية السليمة والنية الصادقة الشجاعة. أحاول أن لا أنجر إلى لغة الشعر والعموميات، عسى أن لا أزيد صورتَنا تشويشا. نحتاج الوضوح. نحتاج التفكير أكثر من الحزن حين يُجندل مثقف. هذا أقل ما يقال في محنة عامة. تعلمون نحن في عصر الحاسوب، كل شيء يقاس بدقة كبيرة. لنلتزم إذن بهذا المبدأ. بدأتُ من السؤال الأهم والأغم: نحن في كارثة، كيف نخرج منها؟ يجب صياغة رد معا. حتما لكل منا ردُّه. بل ردان، أولهما يظهره، الثاني يبطنه ربما. لماذا هذه الازدواجية أو الثنائية؟ إنها ليست بسبب احتواء واقعِنا على العديد من احتمالات الحاضر والمستقبل، بل لأن العراقي، خاصة المثقف، يعيش في عالمين في وقت واحد اليوم، وأمس، وربما غدا أيضا. عالم قديم وآخر جديد. في صراع لا في تصالح و تفاعل، تنشطر معه غالبية مثقفينا، إلى حال سكون، جزء منهم على تلك الضفة المشرقة، وجزء على هذه الغائمة، هذا يحدث برأيي للمثقف العادي حتى لو ادعى تقدمية كاملة. تقدمية ساكنة هي في الحقيقة. إلاّ تقدمية المثقف المفكر الديناميكية. مثقفنا مستهلك أخبار عادة وإيديولوجيات، يعيد إنتاجهما، لا يجمع قطبين متنافرين في التفكير والمجتمع، ويوّلد من التقائهما تيارا محركا للمواقف والأحداث، تقدميا حقيقيا. السائد الذي نراه السلبي، أو الإيجابي، مع اختلاف معنى السلب والإيجاب عند هذا وذاك، أو الخامل كليا، القانع مفتخرا بانزواء في جحر، مع ما تيسر من غنيمة. يفعل هذا المثقف أحادي النظرة مبقيا همّه إبرازَ ذاته المتضخمة فوق ذات الشعب، الجماعة، أمنا الناصحة خيرا، إبرازا يأخذ أي شكل، إرضاءَ جهةًٍ تحميه وتنفعه، مثل شتم جهة أخرى تعاديها. هكذا يجد المثقف أحادي النظرة نفسه فجأة أنه أصبح جزءا من آلة جهنمية غير مرئية، تطحن الجميع، وهو لا يدري، أو يدري ويسكت، لا يمكنه الابتعاد عنها. المطلوب عند أهل عقل لا تدميرها طبعا، الآلة تطرح نوعين أو أكثر من الإنتاج عادة، إذن نقد إنتاجها، تحويله من امتهان مثقف إلى الاحترام المتبادل، من نفخ مثقف إلى ترجيح الأفضل، من عسكرة المدنية إلى مَدينَة العسكرة والعسكر، ومن السرية إلى الديمقراطية الحقيقية، الشفافية، العلانية، وحق الآخر في الاستقلالية، لما فيه مصلحة الجميع، حيث توازن العالم، سيرا على قدمين، بدل دوران على قدم واحدة، برقصة مدوخة في النهاية. بالمناسبة، الجهنمية صفة ايجابية أيضا، كالقول وردة جهنمية. ولعل مرد ذلك الامتهان أن المهم أصبح عند المثقف العادي رفع شأنه أولا، هذا ليس سرا، لذلك رفعوا يوما شعار يسقط المثقف، بينما لا شأن يعلو من غير ثقافة، ولا شأن يعلو لمثقف من غير علو شأن الجميع، الأهل، أقصد الوطن طبعا.. * الشُكر حين يصبح مجونا لعل بعضكم يفكر: متحدثنا السيد برهان يصنّع دراجة، وهي موجودة. لكن الدراجة الموجودة قديمة يا أخوان، والأخوة يتقاتلون اليوم مع الأسف، قد صدئت. علينا بأخرى. نحتاج وسيلة جديدة تماما للحركة. لا يمكن الحركة من غير بركة؟ إذن الجلوس في البيت؟ ولا الجلوس في البيت؟ إذن لنُسمع صوتنا مَن خارجه، حتى لو خاطرنا، حياة من غير كبرياء وكرامة لا تليق بإنسان. شياع أسمَعَ صوته بعيدا، لم يكن أحادي النظرة والتفكير، خرج عن السائد، نعم تخلصوا منه، لكن لم يخسر حياته، ها هي حية في رحاب ذاكرة وتأريخ. ضمن سياق التجديد هذا ظهرت فكرة توحيد اليسار، لخوض انتخابات قادمة، فكرة أراها في هذا الظرف غير صائبة، عودة إلى ديدن قديم بلباس جديد. لا نحتاج بلدا يساريا ولا يمينيا، أوروبا جاءت من حروبها إلى الوسط، والروس من يسارهم إلى الوسط، الصين وضعت شيوعيتها في الوسط، ونحن أمة وسط منذ البداية، فما بالكم عن بلد ومنطقة معرضيّن لمزيد من تقطيع الأوصال. كلاهما، اليسار واليمين، لن يحقق الاستقرار. نحتاج بلدا، حزبا، وطنيا وسطيا، حزب أو تجمع نظيف لكل الانتماءات والتوجهات، قيامه الولاء للوطن أولا وأخيرا، كأساس لأي دولة، قيامته رفض ذلك الولاء. بعد إرساء الاستقرار، وشيء من ازدهار، قد يتمخض عن حالة الوسط المستقرة أحزاب لليسار ولليمين ولوسط جديد، كما في أوروبا بعد حربها العالمية الثانية، أحزاب تمارس بناء الديمقراطية تحت سماء وطن حر، لا سقف احتلال، هكذا تولد الديمقراطية من داخل البلد، بعد مخاض طويل، مر العراق بأكثر من نصفه ربما حتى الآن، بدل حقنها فيه من الخارج كما في فيلم رعب هوليودي. شكر أجانب على تخليص من ديكتاتورية يصبح مجونا مع تدهور البلد تحت تأثيرهم. مصلحة المنطقة أجمع في الاستقرار. لكن، من غير احترام وسيادة كاملتين لكلٍ على أرضه لا يتحقق الاستقرار. القوة رأينا لا تحققه، فهي تخلق نقيضها. إبادة أو تمزيق شعب كما فعلوا بالهنود الحمر لم تعد ممكنة، خاصة شعب مجاله الحيوي من محيط إلى خليج، نعم، وله كتاب يوحده عند أقصى القهر، وإلاّ تفاقم التطرف، بل تفاقم، ومعه تخسر كل الأجزاء. أوروبا وأمريكا ما تخلتا عن مسيحيتهما، ولا إسرائيل عن يهوديتها، والروس عادوا إلى كنيستهم، يصبح طبيعيا تمسك منطقتنا بكتابها ودينها، في الأقل كأساس لشرائع وأخلاق طيبة رحيمة، يتبع ذلك تقارب رؤسائها، بلدانها، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، ضمنا اندماج أقلياتها بتكاملها العام وازدهارها. أبعد من ذلك قد يؤسس مثلث العرب الأتراك الإيرانيين، إذا وعوا ذاتهم كاملا، لهرم معاصر وسط العالم، انعزاليون وأنانيون يرون فيه إنقاصا لمصالحهم، إنما الاستقرار يوجب الاستقرار، والحرب تجلب الحرب. لو جهدوا لمنع قيام الهرم قدموا الأسباب لقيام جهاد مضاد. من سوء الفهم تنبع مشاكل المنطقة. هكذا تبقى المنطقة مرهونة لصراع غير عقلاني بين سلفيين ومستقبليين مع انحسار الوسطية، يُضام أهل الحاضر، حاضنو الوسطية، أكثر فأكثر مع عدم قدرتهم على تشكيل كتلتهم المؤثرة في سير الأحداث بسبب فُرقة وتشوش فكرة جامعة لهم. هكذا أيضا أُعيد العراق، مع إضاعة إستراتيجيته وموارده، إلى منتصف الخمسينات، البيّن آنذاك بيّن الآن: تجاذب أطراف سياسية متنوعة بالمظهر واحدة بالجوهر، منصاعة عموما للخارج، حشر اتفاقية بينها تنقض استقلال وكرامة العراق، مع تراجع الخدمات الأساسية، بطالة، أمراض، معتقلون، إعدامات شنيعة، انهيار الزراعة والصناعة، ظروف تعود الآن من الماضي وتغدو نموذجية لكراهية جديدة، من شعب لحكومة تستخدم القوة في أمل كاذب لحل مشاكل متزايدة، وأيضا نموذجية لظهور تنظيمات سرية وعلنية رافضة ومقاومة كالتي كانت قبل ثورة 14 تموز، لتكرار 14 تموز آخر، على مستوى أعلى من حلزون التأريخ. يجب إنهاء حالة العداء والكراهية بين القوى الوطنية، وبين القوى الوطنية والجيران، وعدم استثمار السلطة لاحتكارها، وتحويلها إلى بيت دائم وديوان لعديمي ذمة ولصوص. * إعلام يختلف ويتخلف إذا لم تتصالح أطراف هذه المنطقة جميعا أكلوا هواء جميعا، مصالحة تتم باعتراف كل طرف بحق الآخر في الوجود، باعتراف كل طرف بارتكابه خطأ تغليب مصلحة حزبية مؤقتة على الوطنية الدائمة، ذلك يعني العودة إلى فكرة الوطنية باعتبارها عروة وثقى يلتف الجميع حولها، نجاةً لهم في الأقل. مقابل فكرة التقارب والتآلف هذه بين القوى الوطنية تُطرح في سوق النخاسة السياسية عشرات الأفكار المثبطة. أرى غير موفق صب مشكلة التقاء الجديد بالقديم في قالب ثنائية المثقف والسلطة مثلا. إنه قالب صغير لمشكلة كبيرة. ضمن حدوده يحاول إعلام دون جدوى حشرها فيه وفي غيره. في عهد الانقلابات هذا نرى الكثير من أهل السلطة هم من أهل ثقافة في الحقيقة، وكثير من أهل الثقافة بلا ثقافة حقيقية. المثقف الحقيقي عندي هو الذي يجمع في نفسه عدة ثقافات، بعضها متضاد، ويلائم بينها. خلاف ذلك تبقى مشكلة الوجود الاجتماعي قائمة عنده، بل ويساهم في تأجيجها بثقافته المحدودة. في هكذا ظرف حتى لو أعطيتَ مثقفا حقيقيا سلطة وجدتَ الأزمة باقية، هو لا يستطيع التحرك بشروط الثقافة الواسعة، كما رأينا في حالة شياع، بل بشروط السياسة، ولا أخلاقياتها المتفاقمة لصوصية وطائفية وتغليب أجندات غريبة على وطنية. للمثقف سلطة أيضا. وغالبا ننتقد السلطة السياسية ونتجاهل سلطة المثقف، كمثقف. يُفسح له المجال عريضا لكتابة مقالات وتعليقات بصحف ومواقع الكترونية، في هذا نوع من ممارسة سلطة. لكن، لعلكم قرأتم شتائم متبادلة غالبا هناك، وكيف يتنطعون. كذا يُساء استخدام سلطة المثقف أيضا، وأحيانا إلى حدود بعيدة، رأي ورأي مضاد، في هذا الاتجاه وفي المعاكس، يتضاربون، يلقون الماء في وجوه، مثقفون يستعملون أساليب تهديد وتعرّض وضيعة أحيانا لمثقفين آخرين لا يتفقون معهم برأي، بل وقد يتفقون معهم بالرأي وتُمارس ضدهم محاولة إذلالهم بشتى الأساليب، لجرهم إلى صف وتوظيفهم في شللهم البائسة دعما لها. لن أذكر لكم أمثلة وهي موجودة، الكاتب غير معني بكشف تقصير أحد لأحد، إلاّ إذا كان التجاوز على الوطن. سوق الإعلام تصبح مثل سوق هرج، تجد فيها كل شيء، الرخيص والمزيف والمسروق والتافه وأحيانا الغالي، معروضا كتحفة رخام لخير الأنام. عموما، الأصيل والسامي يكاد لا يجد مَن يستقبله ويسوّقه. ولو غامر أحدهم وقبله وعرضه عامله عتاة السوق كأنه سقط متاع، غير متوان عن تسفيهه، لحوسمة قيمته. حسنا، أوضح، أحدهم مثلا يكتب مقالا فيه: هذا كتاب يختلف عن ذاك الكتاب بعمق التحليل وسبر الشخصيات.. و..و..إلخ، يأتي آخر ويعيد نشر المقال مغيرا "يختلف" فيه إلى "يتخلف" كأنه خطأ مطبعي، هكذا انقلب المعنى في لحظة، ولا من شاف ولا من درى، المقال باق هو نفسه كما كان في الظاهر. يكتب آخر قبل عامين شيئا إيجابيا عن فلان، فإذا المقال يُعاد اليوم نشره، مع تحريف بسيط آخر بالكلمات، يقلب المعنى أيضا رأسا على عقب. أيضا، يرسل أحدهم مقالا إلى صحيفة، يرفع محررها اسم فلان من النص، لأنه سمع عنه أو منه كلاما ليس في هواه ومجراه. غير هذا ثمة أمثلة عديدة على استخدام أساليب رخيصة ضد مَن لا يمشي في هذا الاتجاه، ولا في المعاكس، بل في اتجاهه الخاص. كأنما يُقال له: معلوم يا أبو العلوم عليك أن تعرف للحرية والسلطة حدود أيضا. وما دمنا في رمضان، والشيء بالشيء يذكر، في كتابه الكريم قال: إنا أعطيناك الكوثر فصلي لربك وانحر. وهو توّاب رحيم، في هذا خير وخيار طبعا. لكن في عهد الطائفية التقدمية هذا، والطائفة قد تكون معممة أو ذات طاقية أو مكممة، يُقال لمثقف بل موظف: ليس لك خيار، إنا أعطيناك السلطة فصلي لها وانحر.. وإذا فضحتنا تُنحر. رجائي هامش المزاح ما زال باقيا للتنفيس عن ضغط. * سر الاستقرار ما حدث لشياع مؤشر على أن المستهدف أيضا ثقافتنا الوطنية الحرة، الكامل استخدم سلطته بأدب جم، عبر عن عدم رضاه مما يجري خلسة، وخلسة أسكته كاتم، ليس قنبلة، ولا قذيفة، ولا عبوة، هذا نصيب مَن في قلبه اليوم للوطن صبوة. ولم يكن في هذا وحيدا.. أستذكر اليوم لا شياع فقط، من المثقفين الطيبين المحبين لوطنهم، المرحّلين عنوةً عنه، عن الدنيا كلها، لأسباب ما عرفنا عنها سوى أقل من القليل، في عهد العنف والصخب حسب تعبير الأمريكي وليم فولكنر، قبل نصف قرن تقريبا، أي في عهد المعلومات والفضائيات، بتعبيرنا اليوم. أستذكر أول الصاعدين إلى فداء العراق من مثقفيه ذوي الذمة والهمة، أصدقائي الأفاضل الأكارم الذين عرفتهم وأحببتهم، عقيل الجنابي، قاسم عبد الأمير عجام، حسام الخالدي، كفاح الآلوسي، خالد السعدي، مَن أيضا مضى وما زلت أراه حيا أمامي؟ غايب طعمة فرمان، موفق الدليمي، عطا الخطيب، سعود الناصري، سعيد جواد، وغيرهم، لكن هؤلاء اختاروا لهم، رغم اتفاقهم جميعا على ضرورة تغيير العالم ليكون أفضل، أسبابا أخرى للرحيل، لنقل أقل دراماتيكية، هكذا تكون مشاكل العالم، والاختلاف حول حلها، أقل وأقرب إلى حل. أليس ذلك فصلا آخر لراحلين أنارت لهم الثقافة نفوسَهم ومعها أرادوا إنارةَ ما حولهم، لكن أطفئوا أو انطفأوا.. وما زال الغيرُ يواصل الإنارة غيرَ مبالٍ لغدر الأقدار والخسارة والبعض يحاول تكبيل أنواره على درب شديد الانعطاف والإثارة فكيف لا نقول عن شعبنا حقا عظيم يواصلُ الكدحَ رغم نزيف جُرحِه الأليم آلافَ سنين كسيزيف ينقل الحجارة قد يستقر.. قد يرفع بنيان الحضارة ولا بال يهدأ حتى يبدد الغمَّ و آثاره * كلمة أخيرة مرتين عاش العراق الاستقرار: الأشهر الأولى من ثورة تموز 58، وبعد تأميم النفط 73، ابحثوا هنا عن سر الاستقرار وفرحة المثقفين الأخيار، وإلاّ عدمية.. يلعن فيها الشعب كل الساسة وكل الأحزاب، حيث لا مُستقَر لأحد. * هامش في ختام الأمسية وجه بعض الحاضرين أسئلة إلى برهان الخطيب منها: تدعو لتعايش بين ذئاب وخراف، هل هذا ممكن؟ رد الخطيب: مثالك موفق، لكن نحن بشر لدينا عقل نختلف معه عن الحيوانات الجاهلة، لذلك يجب أن نتمكن من التعايش، لنثبت في الأقل نحن أفضل منها. وكان السؤال الثاني عما إذا كانت ثمة علاقة بين تأسيس حزب الوسط في العراق مؤخرا ودعوة الخطيب إلى هذا النهج، وكان رد الخطيب بأن دعوته إلى الوسطية منذ زمن بعيد أي قبل تأسيس هذا الحزب، ربما تم استلهام الفكرة، لكن لا صلة له بالحزب المذكور. واستغرب آخر جمع الطيارين المقتولين مع المثقفين المقتولين أمثال شياع. رد الخطيب: عمليات الاغتيال مستهجنة ومرفوضة عندي، منها التي تطال البعثيين، لا فرق بين مغدور ومغدور، أوروبا رقت بقانونها واستقلالها وليتنا نكون مثلها. ** منشور بصحيفة "العرب اللندنية " 14 سبتمبر 2009