سنوات طويلة ظلت أمي تلقي مسؤولية فصلي من الوظيفة علي تلك الرسالة التي ألقيتها في صندوق بريد الحلة ، رغم أنني أكدت لها أن القصيدة لم تنشر أصلا ً .. كان قلقها علي مصير إخوتي الخمسة الذين كان أصغرهم ما يزال يحبو ، وكنت أنا معيلهم الوحيد ، لا يترك لها أية فسحة للطمأنينة . حال عودتنا إلي بغداد عرض علينا قريب لنا دارا ً قديمة يملكها في شارع النهر ، بإيجار متواضع .. واقترح علي أمي ، وهي بنت خالة أمه ، أن تعتمد علي نفسها أولا ً في إعالة أولادها ، وذلك بأن تشتري بقرة تضعها في خربة بجوار الدار يملكها هو ، يكون نتاجها الغذاء الرئيس لنا ، وتبيع ما يتبقي منه لتسديد بعض مصاريف بيتنا الأخري ، وبعد ممانعة شديدة من كبريائها ، رضيت ، أعانها هو رحمه الله بأن سدد ثمن البقرة علي أن تعيده إليه من ثمن الحليب الذي تبيعه . أما أنا فقد ذهبت إلي خان الشابندر ، وخان جغان ، حيث صاغة الذهب .. وقبعت في أحد دكاكينها صائغا ً . هنا لابد أن أشير إلي أنني كنت واحدا ً من أمهر النقاشين علي الذهب في بغداد .. وكان بإمكاني أن أصبح باذخ الثراء لو شئت أن أتفرغ إلي الصياغة ، ولكن ذلك كان يلزمني بأن أترك الشعر ، وهي مسألة ما كان يمكن مناقشتها معي لولا أن ألجأني إليها قلق أمي ، ونظرات إخوتي إليّ !. يقاتلني دائي ، ويعصرني بؤسي وأحلم أن أقسو فأقسو علي نفسي ويفزعني مما أعانيه ِ أنَّني أجادل إيماني لأ لهوَ عن يأسي ! وترتطمُ الأحداثُ بي وَتَهُزُّني فأصحو علي دارٍ يموتُ بها غَرسي يَفحُّ بها الأطفالُ بَردا ً وتلتظي مَحاجرُهُم جوعا ً فتَنبُتُ في رأسي تُزَعزعُ إنسانيَّتي وتُهينُني وَتَسحَقُ إيماني وَتسخرُ من بأسي وتتركني عريانَ من كلِّ قيمة ٍ تُسَتِّرُني ، حتي البقيَِّ من حسِّي فأخرجُ لا أدري إلي أينَ أنتهي وفي رئتي حقدي ، وملْ يدي فأسي ! كانت قوائم الفصل من الوظيفة قد شملت عددا ًكبيرا ًمن الموظفين معظمهم من سلك التعليم .. وكانوا يمرون بي في محل الصياغة الذي كنت أعمل فيه أثناء رواحهم ومجيئهم بين وزارة المعارف والأمن العامة مؤملين إعفاءهم من الفصل ، خاصة أصحاب مدد الفصل القصيرة بين العام والعامين .. أما أنا فقد حزت علي مدة الفصل القصوي : خمس سنوات ! . يوما ًالتفت إليّ قريبي الذي كنت أعمل في دكانه قائلا ً : عبدالرزاق .. أنت أخي .. وأنا اعرف حاجتك الماسة إلي العمل ، ولكن مجيء أصدقائك هؤلاء إلي المحل يوميا ً سيعرضني إلي المشاكل .. ولا أكتمك أن أحد رجال الأمن السري زارني أمس بعد خروجك مساءا ً ، وسألني عنك ، وعن علاقتي بك ، وأنا رب عائلة . في ذلك اليوم نقلت عدَّتي من دكان قريبي هذا إلي صائغ ٍآخر ! . من أكثر ما مر بي في هذه الفترة إنسانية ً ، أن أناسا ً بينهم أصدقاء لي ، وغالبيتهم لا أعرفها ، كانوا يجيئون إليّ قائلين : أستاذ عبدالرزاق .. نحن إخوتك ، ونعلم بمعاناتك ، ونحن نرفض أن نقدم لك عونا ً دون مقابل لأننا نعلم أنك سترفضه ، ولكننا اتخذنا قرارا ً بشراء نسخ من قصيدتك { الحرب } مكتوبة ً بخط يدك .. وموثقة بتوقيعك ، كل نسخة بخمسة دنانير ! . أيها الإخوة الرائعون .. شهورا ًعديدة ، كانت أفواه إخوتي وأخياتي تمضغ لقمتها من عرق جباهكم ، فما كان وضعكم بأحسن كثيرا ًمن وضعي .. ولكنكم كنتم كبار النفوس ! . دكاكين صاغة ٍعديدة تنقلت بينها والأمن السري يلاحقني من دكان إلي دكان ، واستقر أمري أخيرا ً علي أن أبحث عن وظيفة في أي مكان .. وعثرت عليها في شركة لبناء السقوف الكونكريتية تعود للمرحوم نديم محمد طيب آل حويز ، وكان أستاذا ًفي كلية الهندسة ..عملت فيها مديرا ًللإدارة براتب قدره ثلاثون دينارا ً في الشهر ، وبدوام يبدأ في الساعة الخامسة صباحا ً وينتهي في الثامنة كل مساء !. يوما ًمن الأيام ، قلت للمهندس الألماني الذي كان يعمل في الشركة نفسها : أتمني أن أري غروب الشمس ولو مرة ًواحدة ! .. فكادت عيناه تدمعان ! . ماذا بوسعِكِ أنتِ يا أ ُمّا ً لسبعةِ أشقياء طوَّفتِ حتي بالحليب أعَزَّ أيام الشِّتاء تَتَخَبَّطينَ معَ الشروقْ فوقَ الوحول، ونَعلُكِ المَهروء يوسعُ من شقوقْ قدَمَيكِ .. لن أنسي رجوعَكِ ذاتَ يوم ٍ تلهَثينْ كنا جميعا ًنائمينْ فقَبَعتِ ، كي لا توقظينا ، في سكون ٍتنشجينْ ونهَضتُ فانقطعَ البُكاءْ فرأيتُ بينَ الطين ِفي قدَمَيكِ آثارَ الدماءْ.. مازلتُ أذكرُ كيف قلتِ وأنتِ تُخفينَ الدموع : لم أستطعْ إخراجَ رجلي والنِّعالَ من الوحولْ فترَكتُهُ ومضَيتُ حافية ً فخانتني قوايْ ووقعتُ فانسَكبَ الحليبْ شُلَّتْ يَدايْ ما خانتاني قبلَ هذا اليوم .. أقدامي تهونْ لكنْ صغاري ، والدروسُ تطولُ ، ماذا يأكلونْ ؟ من قصيدة (من حياتنا )ديوان طيبة . بغداد 1956 ** منشور بصحيفة "الزمان" العراقية 2 سبتمبر 2009