طارت كلمات جابريل ارسيا ماركيز، إلي (أصدقائه) بعد أن أصيب بسرطان الغدة اللمفاوية،عبر العالم، ليقرأها ويتداولها ملايين القراء، خصوصاً أولئك الذين سحرهم هذا الساحر الواقعي، عبر روائعه الشهيرة التي بوأته أفضل روائي في القرن العشرين وحتي بدايات قرننا هذ ا. من الصعب تعداد أبرز ملامح إبداع هذا المبدع الكبير، فكل النعوت النقدية وأسباب الإعجاب بعمله لا تحقق الغرض، ويبدو أي وصف لأعماله قاصراً ولا يفي مسيرته المفعمة بالإخلاص للإنسان، عبر الفن، حقها. وجه ماركيز رسالته إلي العام، ليس كمن يودعه، بل كأن مقبل للقائه، بالفرح الخلاق كله، وخاطب (أصدقائه) ليس بيأس الإنسان الموشك علي الغياب الأبدي، بل بأمل الفنان، والمربي، الذي يعزز حضوره بين الناس. تلك هي القيمة الأبرز في رسالته، وهو يدعونا إلي أن لا نغمض عيوننا، حتي للحظة، كي لا نخسر ستين ثانية من النور. الرسالة قطعة فنية تزخر بالجمال الذي هو عنوان وجود ماركيز وجوهر عمله، وعلي أهمية ما قدمه وعظمة منجزه فهو يصر علي استثمار (حياة أخري) بكل قواه لو قدر له الله أن يعيش هذه الحياة مجدداً.. (ربما لن أقول كل ما أفكر به لكنني، حتماً، سأفكر في كل ما سأقوله). ثمة درس في الحب أيضاً: (سأثبت للناس كم هم علي خطأ عندما يعتقدون بأنهم فقدوا القدرة علي الحب لأنهم شاخوا، من دون أن يعرفوا أنهم شاخوا لأنهم فقدوا القدرة علي الحب). ماركيز يهدي الأطفال إلي بداية الدرب، ويضع خطواتهم الأولي علي الدرب من دون أن يأخذ بأيديهم إلي نهاية المشوار فيسلبهم متعة المغامرة والاكتشاف: (للطفل سوف أمنحه الأجنحة علي أن أتركه يتعلم الطيران وحده). وليس بعيداً جداً عن تلك الفكرة يلفت أنظار قرائه وأصدقائه إلي معني المثابرة والكفاح، كما خبرها ماركيز عندما بدأ حياته بائعاً للقناني الفارغة في أزقة باريس، ويكشف عما تعلمه بقوله: (تعلمت منكم الكثير أيها البشر... ومنه أن الجميع يريدون العيش في قمة الجبل غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه). ويضيف الآتي: (تعلّمت أن المولود الجديد حين يشد علي أصبع أبيه للمرّة الأولي فذلك يعني انه أمسك بها إلي الأبد. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلي الآخر فقط حين يجب أن يساعده علي الوقوف. تعلمت منكم أشياء كثيرة! لكن القليل منها سيفيدني، لأني عندما أرتبها في حقيبتي أكون قد ودعت الحياة. قل دائماً ما تشعر به وافعل ما تفكّر فيه. لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراكِ فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعيّ ولتضرعت إلي الله أن يجعلني حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها ، لقلت "أحبك" ولتجاهلت، بخجل، انك تعرفين ذلك. هناك دوماً يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، "لقد تعلمت منكم كثيراً أيها البشر" .. هذه عبارة من بين عشرات العبارات المشعة بالضوء خطها قبل أيام الكاتب الأروع في العالم غابرييل غارسيا ماركيز في رسالة وجهها لأصدقائه ومحبيه وهو يقاوم السرطان علي فراش المرض، يتوقع ماركيز أنها الرسالة الأخيرة، فعدوّه الآن لا يمزح بل يحاول الفتك به في كل ثانية، وقد تمكن منه، لكن "غابو" العجيب يتمتم في الرسالة كما لو أنه في عنفوان الشباب والقوة: "لو شاء الله .. أن يهبني حفنة حياة أخري، سوف أستغلها بكل قواي .. سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نوم خسارة لستين ثانية من النور، وسوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام، وسأبرهن للناس كم يخطئون لو اعتقدوا أنهم لن يكونوا عشاقاً متي شاخوا، فهم لا يدرون أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق"هل هناك روح مقبلة علي الحياة أجمل من هذه الروح، وهل هناك تحد ضد الموت أبرع من هذا التحدي، وهل هناك تفاؤل يضاهي هذا التفاؤل؟ ماركيز الذي بلغ المجد بكل أبعاده، عاش حياته بالطول والعرض، حاز المال والشهرة والسعادة التي عبر عنها في حوارات كثيرة، هاهو يلخص معني الحياة ويجعلها متمثلة في قيمة واحدة هي الحب، كتب به ودافع عنه وناضل من أجله، علي امتداد رواياته وحتي آخر رمق. هاهو ماركيز يعود مثل كل مرة إلي إنسانيته البسيطة التي يجدها تعادل كل ذلك البريق المذهل في نظر الآخرين .. ففي حين تأتي جائزة نوبل العالمية لغالبية المبدعين في نهاية مسيرتهم الشاقة لتختمها، فإنه وعندما جاءته عام 1982 اعتبرها محطة وبداية انطلاقة أخري، وهو ما كان. حتي وهو ضعيف ومنهك ومشرف علي الموت بعد أكثر من 80 عاماً من العيش (مولود سنة 1927 في أركاتاكا بكولومبيا) يفكر ماركيز كعاشق يافع: "ربما هذا آخر يوم نري فيه من نحب، فلنتصرّف، لئلا نندم لأننا لم نبذل الجهد الكافي لنبتسم، لنحنّ، لنطبع قبلة"، ويقول: "لن يتذكر أحد أفكاركم المضمرة، فاطلبوا من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها". لنتذكر بهذه المناسبة أن لهذا الرجل حقاً كبيراً علينا، فطالما دافع عن الحقوق العربية وهو غير مطالب أو مكره علي ذلك، ساند القضية الفلسطينية ووقف ضد الحرب علي العراق، ولا يزال موقفه كذلك ولم يتبدل حتي اليوم. كثيرون منا يعيشون الحياة وكأنها انتهت، وكثيرون يدفنون رؤوسهم في الرمال مثل النعامة خوفاً من الخطر القادم، لكن كاتب "مائة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا" و"حكاية بحار غريق" ينتظر شمس اليوم التالي بشغف، ويأمل أن يكون الغد أجمل. ** منشور بصحيفة "الزمان" اللندنية 1 يونيو 2009