ونحن نحتفل بعد يومين بيوم الشعر العالمي 21 مارس يضعنا انقطاع الجمهور اليوم عن الشعر في فخاخ أسئلة كثيرة. السؤال عن تفاعل الشعر مع الحياة اليومية؟ وهل الشعر نخبوي أو أنه قادر على ملامسة أوجاع وهموم واهتمامات الناس بكل طبقاتهم؟ وهل الشعر كفن خاضع لمستقبل يحدد مساره الجمهور ويوجهه؟ فالشعر المعاصر شبه غائب أو هو غائب فعلا من حوارات الجمهور اليومية، من صفوف المدارس، من المكتبات، من الصحف اليومية، كل ذلك له دلالته بزعم المراقبين، على غياب الشعر عن الشعوب، أو وجود شعوب الشعر غائب عن تفكيرها، أو مغيّب. وحين يدور الحديث هنا عن المعنى الكمي لجمهور الشعر اليوم، ترانا نحدد حضور الشعر بحضور الجمهور وهو مفهوم ملتبس الاول ينطلق من فكرة اللاجدوى، والثاني يبحث دائما عن جدوى. في هذا التحقيق توجهنا بالسؤال إلى عدد من الشعراء العرب على اختلاف أجيالهم وتجاربهم ووصلتنا مشاركات من بعضهم سلطت الضوء على جوانب مختلفة من هذه المسألة.. قالوا: الشاعر العراقي المقيم في لندن عبد الكريم كاصد أجاب بقوله: «أشك أنّ موضوعا كهذا جديّ تماما لسبب بسيط هو أننا نختلف، بكلّ تأكيد، حول مفهومي الشعر والجمهور. ما الشعر؟ ما الجمهور؟ وهذا الاختلاف ضرورة من ضرورات الحياة والشعر معاً، مثلما نختلف حول الوقائع المطروحة في التساؤلات. هل الشعر غائب تماما عمّا ذُكر في التحقيق؟ هناك مكتبات كاملة مختصة بالشعر وحده دون سواه، أتحدث هنا عن لندن، تحتوي على ما يبعث على الدهشة حقّاً، من الكتب والأشرطة والفيديوهات والأفلام .. إلخ، وهذا ما يدعونا إلى التساؤل: هل نحن أمة الشعر كما ندّعي؟ إضافة إلى المدارس التي تدرس الشعراء القدامى والمحدثين ومن أعقبهم من شعراء الأجيال الأخرى، وهذه المدارس لا تكتفي بذلك بل تدعو الشعراء بين فترة وأخرى لزيارتها والحوار مع طلبتها. أما الجامعات والمؤسسات التي تدرّس الشعر فهي لا حصر لها. إنّ أعداد الكتب الصادرة عن الشعراء، قدامى ومحدثين، وحدها ما يثير الفضول، في الوقت الذي لا نجد عن بعض شعرائنا الكبار حتى دراسة واحدة يمكن الركون إليها. كم من الكتب عن أحمد شوقي أو الجواهري أو الرصافي مثلا دون ذكر الشعراء المحدثين الذين يمكن أن نختلف حول قيمتهم الشعرية في مجتمعاتنا المتخلفة التي تبحث عن علاقة الشعر بالجمهور ولا تبحث عن تخلفها: أسبابه وكيفية الخروج منه. ما يثر الانتباه أيضاً أنّ ثمة مؤسسات ثقافية عديدة تدرّس كيفية كتابة الشعر. وهذا ما نستهجنه نحن باعتبار الشعر وحياً صرفا لا تشوبه صنعة ما. يؤسفني أن أقول أن كثيراً من الشعر الجماهيري أو ما يسمى بالجماهيري، وهو ليس جماهيريا أبداً، هو من الشعر الهابط الذي لا يحتوي على أية قيمة شعرية أو ثقافية أو حياتية. مثلما نقرأ الأطنان من الشعر الآخر الذي يسمّى غامضا، الذي لا يحتوي أيضاً على أية قيمة من القيم التي ذكرناها، وهو ليس غامضاً بسبب عمقه بل بسبب سطحيته وتشوشه وعالمه المختلط الذي لا يفضي إلى شيء. هناك من جهة أخرى شعراء كتبوا قصائد عصية على الفهم لدى الجمهرة الواسعة من الناس ولكن ذلك لم يحل دون شهرتهم وتتويجهم باعتبارهم شعراء أمة لعمق عالمهم الشعريّ، وامتداداته في الماضي والمستقبل، واستشرافاته الإنسانية، مما يجعله عصيّاً على من يطلب السهولة في التعامل مع الشعر. يرى إليوت في إحدى مقالاته أنّ جماهيرية الشاعر ليست بالضرورة متأتية من فهمه من قبل جمهوره وإنما هي متأتية من تقييمه باعتباره شاعراً كبيراً أو شاعر أمة هو مبعث افتخار حتى من لا يقرأ شعره في أمته. وهذا ما لمسته بنفسي حين قدم الجواهري، أواخر الستينات، إلى البصرة للمشاركة في مهرجان المربد، بعد منفى طويل حيث خرج الناس ينتظرون ساعاتٍ متلهفين لرؤيته. كان من بينهم نساؤنا الأميات القادمات برفقة أطفالهنّ. قد تكون الجماهيرية، بمفهومها السلبيّ العريض مقياساً لشعبية هذا الزعيم أو ذاك، هذا الحزب أو ذاك ولكنها لن تكون مقياساً أبداً للشعر وحتّى هنا كثيراً ما يخالط هذا المقياس الكذب والتزوير. ثمة مقاييس أخرى هي ألصق بالشعر من هذا المقياس الذي يمكن أن يدخل عاملاً من عوامل أخرى تدعو إلى التأمل والدرس. غير أننا حين ندقّق في لفظة «جماهير» ذاتها نجد أنها تحتوي على فئات لديها من الوعي ورهافة التذوّق وفهم الشعر ما يفوق وعي وفهم الكثير من الشعراء وأدعياء الشعر. إن مشكلة الشعر، في الكثير من الأحيان، لا تكمن في علاقته بالجمهور بل بالمؤسسات الأكاديمية المتحجرة، والمحنطين من أساتذة وأدعياء شعر وموظفي ثقافة وأعلام مشوّه لا يرى في الشعر إلاّ ما هو قابل للتسويق جماهيرياً كان أم غير جماهيريّ، غامضاً كان أم واضحاً.. المهم أن يكون سلعة للتسويق لا تؤذي أحداً. لم يسء الجمهور للشعراء الكبار: بدر شاكر السياب والرصافي والجماهري وأميلي ديكنسون وهوبكنز وشعراء عظام لم يستطيعوا أن ينشروا في حياتهم حتى قصيدة واحدة، وإنما الذي أساء إلى هؤلاء هي المؤسسات ومحنطوها وسوء الفهم الذي قوبلوا به من قبل هذه المؤسسات. أما الحديث عن السلطات وما يحفل به تاريخها من بطش أو اعتقال أو نفي للشعراء فهو حديث لا يسرّ أحداً أبداً في عالمنا المليئ بالعسف والمتشدّق بديمقراطية كاذبة تتسع لكلّ شيء إلاّ الشعر الذي يريدونه نمطاً واحداً.. جماهيريّاً بعد أن فقدت هذه الصفة مصداقيتها في التطبيقات الفجة المشوّهة لما يسمّى بالثقافة الجماهيرية التي هي أبعد ما تكون عن الجماهير. وإذا ما سلّمنا أن الجماهير بفئاتها العريضة المتنوعة غائبة عن الشعر الحالي، فهل هي غائبة حقّاً عن تراثها وشعراء أمتها الماضين؟ وهذا لا يمكن إلاّ إذا كان هناك خلل في بنية المجتمع ذاته وبنية المؤسسات وليس في الجماهير ذاتها. سيظل الشّعر نخبويا في المقابل ينظر الشاعر المصري المقيم في بلجيكا عماد فؤاد إلى جمهور الشعر من زاوية أخرى ويتفق كثيرا مع فكرة إساءة المؤسسات الثقافية للشعر والشعراء، يقول: «أجد نفسي مع الرأي القائل بأنَّ الشّ.عر مغيب، ذلك لأن النَّاس الآن مشغولون بما هو أهم، وهي لقمة العيش، لا أظن أن رجلاً عادياً يُطحن يومياً يهتم بأمر الشّ.عر أو جديده، الشّ.عر جمهوره نخبوي، وسيظل نخبوياً مادام هو فن نخبوي، ولكن سيظل قارئ الشّ.عر موجوداً، ما دام الشّ.عر نفسه موجودا. أنت في أسئلة تحقيقك وضعت يدك على أسباب تغييب الشّ.عر، ومنها مكتباتنا المدرسية ومناهجنا التعليمية المتخلّ.فة، تلك التي تربّ.ي ملكة الحفظ والإنشاد لدى الطلبة، ولا تحاول أن تنمّ.ي فيهم ملكة الرأي الخاص النابع من قناعاتهم الشخصية والذاتية، ليس وحده الشّ.عر هو المغيب يا صديقي، في ظنّ.ي أن هناك الكثير من الفنون المغيبة، لدينا الكثير من المظاهر الثقافية التي يرثى لها عربياً، الشّ.عر في العالم كله يشهد تراجعاً، وعلينا أن نحاول معالجة أسباب هذا التراجع، لا بسكب الدموع على الأطلال كما فعلنا ونفعل طوال العقود الخمسة الماضية، ولكن بأن تتبنى المؤسسات الثقافية العربية مواهب حقيقية كما تفعل مؤسسات العالم المختلفة، وألا ندمر مواهبنا الجديدة على أحجار كتابات أسمائنا المكرسة التي لا تسمح بمرور أي روح تحمل جديداً. تسألني عن الجمهور، ولا أعرف بماذا أستطيع أن أعرّ.ف هذا الفصيل المبهم والفضفاض، الجمهور هو أشقائي وأصدقائي ومعارفي الذين يقرأون ما أكتبه قبل نشره، هو أمّ.ي التي لم تتعلَّم القراءة ولا الكتابة كي تخرج مباضع النقاد وتحول قصيدتي إلى جثة، هو شقيقتاي المحجبتان اللتان تخجلان من قصيدتي حين تتعرَّى، هو زوج شقيقتي الملتحي الذي لا يقرب أنامله من كتاب لي مخافة الدَّنس، هو أبي الذي يفرح بكل كتاب جديد لي ويوزّ.عه على أصدقائه ومعارفه دون أن يهتم بقراءة الصفحة الأولى منه!، الجمهور كلمة كبيرة، أكبر من قصيدتي وأكبر من هذه السطور، وأكبر من محاولتي لاستيعابه، لذا عوَّدت نفسي على عدم الاهتمام به، وأكتب قصيدتي دون محاولة إرضائه، فهو لن يرضى أبداً، سيظل الشّ.عر نخبوياً، طالما ظل وجود الكتاب في بيوتنا العربية استثناءً عن قاعدة المعتاد! حين نستجيب ننتهي ولا يبتعد الشاعر الأردني موسى حوامدة كثيرا عن رأي كاصد وفؤاد، ويقول منطلقا من إشكالية صناعة الذائقة الشعرية: الذائقة العربية لم تتحرر عموما من أسر الماضي والموروث، بمعنى أنها لا زالت تئن تحت سطوة الشعر القديم وتحت ثقل النظرة المعادية للشعر، وإذا كانت الذائقة الشعرية قد تحولت كثيرا لدى الكثير من الشعراء والمشتغلين بالشعر لكنها لم تتحرك كثيرا بل ربما لم تتزحزح لدى الجمهور العريض. عدا عن دخول المجتمعات العربية عموما قيمٌ جديدة ومتغيرة، ففي الدول الغنية طغت النزعات الاستهلاكية والمادية، بينما شلّ الفقر حاجة الناس للثقافة في الدول الفقيرة، فانعطبت الروح في الطرفين. المشكلة الثانية أن السعي نحو فنية عالية في القصيدة سيبعدك بالتأكيد عن رغبة الناس وذائقتهم، ولذا ينعزل الشعراء عن مجتمعاتهم كثيرا، لكن هذا ضروري لأن الاستجابة الى الجمهور ستغرقنا في التفاهة اكثر، وربما تسبب هبوط المستوى الفني كثيرا، وتلبية طلبات الجمهور قد تدفع الكثيرين لكتابة الشعر الشعبي او كتابة شعر الغزل أو قصائد الحب أو الهاب حماس الناس بما يريدون، من ناحية وطنية ودينية. حين نستجيب ننتهي، وحين لا نستجيب ونذهب مع حركة القصيدة وتطورها سنخسر الجمهور وهذا هو المطلوب، لأن خسارة الجمهور هنا ربح أكيد، نعوزها لضرورة الشعرية وللاستمرار في تطوير حركة الشعر العربي عموما. أفهم أن البعض قد يستهجن كلامي وربما ينظر له من باب العجز عن الوصول للناس وهذا ليس عيبا ايضا حتى لو كان صحيحا فالوصول للناس ضمن شروطهم فضيحة لا يقبلها الشعر نفسه. المشكلة التي طرحتها هنا مثل قنبلة عنقودية فعلا؛ وهي ليست محصورة في الجمهور، فالشعراء أيضا لديهم مشاكل كثيرة وأولها النفاق الذين يبدونه للجمهور ومحاولة التقرب منه، ومن جهة ثانية محاولة التقرب من النقاد، فيما يتكلف البعض كتابة لا تنبع من روحه ومفهومه للشعر، وللحياة، فتظهر كتابات ليست أصيلة بل تتمشى في زي غيرها، وهي تغازل فكرة خاطئة وفمها قاصر للشعر، فتذهب القصائد الى أودية سحيقة وبعيدة وهنا تضيع الخطوات. شخصيا إن كنت تسألني، لا أطمح للتحول إلى شاعر جماهيري لان لذلك شروطا اعجز عن تلبيتها، فما أفكر فيه واعتقد به وما أرغب بكتابته يبعدني دائما عن الجمهور ويضعني في صف معاد له، ولست قادرا على ترويض نفسي لمواصفات أو مقاييس، ولذا أهرب منفردا لا أبحث عن تصفيق ولا استحسان. وختاما، ليس بالضرورة ان يكون الشعر جماهيريا فالجماهيرية مقتل خطير، وحتى لو استمرت حالة الغثيان والأزمات، فليس مطلوبا ان نحلها لأن في الحل او البحث عن حل طريق هلاك أيضا. ** منشور بجريدة "القبس" الكويتية بتاريخ 19 مارس 2008