"الشعر لو ملك السما/ مهما إن علا/ لازم له في الأرض المقر/ مفيش مفر" كلمات للشاعر ماجد يوسف، وهو أحد شعراء العامية من جيل السبعينات، وصاحب دواوين "ست الحزن والجمال" و"فهارس البياض" والذي أسس قناة "التنوير" الثقافية . حاوره "محيط" بعد صدور مجلدين له من قصور الثقافة يحويان أعماله الكاملة، واعتبر يوسف أن إعلامنا عاجز ، وأن نجوم الشعر اليوم يتعالون على المواهب الشابة بعكس جاهين وحداد قديما .. محيط : ما سمات شعراء السبعينيات المصريين؟ - أولى حركات التجديد في الشعر تمت في أوائل الخمسينيات على يد أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور في مصر، والبياتي ونازك الملائكة في العراق، وادونيس وسعيد عقل ويوسف الخال في الشام، وكان أبرز تطورات هذه الحركة هي الخروج من أسر الشعر العمودي أو الشعر التقليدي. بعد هذا التجديد الذي استمر في جيل الستينيات يأتي الجيل الثاني مثل عفيفي مطر، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وأمل دنقل، التي حوت قصائدهم مضامين جديدة تعبر عن العالم العربي الآخذ في اليقظة والنهوض، والذي جنح إلى مفاهيم الاشتراكية والتقدمية، وقد كان الشعر حاملاً لمفاهيم بعينها، وإن تحرر في شكله، فقد كانت المفردة اللغوية داخل النص الشعري تحمل دلالتها القاموسية والمعجمية. ويعد أبرز إنجاز لجيل السبعينيات أنه خلق للمفردة اللغوية معان جديدة، ومن هنا يأتي اتهام هذا الجيل بالغموض. شعراء العامية محيط : إلى أي مدى تهتم بانتشار أشعارك ؟ - الشاعر في مأزق هل يقف بحدود شعره وتجربته عند ذائقة الجماهير التي هي إفراز لتعليم متخلف قائم على التلقين، أم يُخضع تجربته الشعرية للتطور ويحرص على تقدمه آملاً أن يفهم المتلقي التجربة لاحقاً. المعادلة صعبة هل يكسب الشاعر الجماهير أم يكسب الشعر؟ أمنية الشاعر بالطبع الجمع بين الاثنين، وعلى الشاعر أن يختار الشعر شريطة البعد عن تعمد الغموض، فأنا ضد التنازل عن التجربة طالما صدقت ، ولو تغيرت نظم التعليم التلقينية سيأتي الجمهور حتما. محيط: ما رأيك في شعراء العامية الجدد ؟ - هناك شعراء شباب رائعون في قصيدة العامية مثل عمرو حسن، وائل فتحي، سالم الشهباني وغيرهم، أما هشام الجخ فلم أقرأ له شئ، كما أن الإقبال الجماهيري عليه يزعجني، خاصة في عصر انحطت ذائقته، ومن ثم يصبح الاستهواء العام ليس معياراً للنقد، فهكذا شعبان عبد الرحيم يلقى إقبالاً جماهيرياً. وأحد أهم ما يؤخذ على الجخ هو أن قصائده تتردد بها أصداء كثيرة من شعراء آخرين، وكأنها مرت علينا من قبل. أما الشعر الحلمنتيشي الذي يلقيه عمرو قطامش، فهو شعر له إطار محدد، وله تاريخ في تجاربنا الشعرية، منذ بيرم التونسي، لكنه يظل نوع من الشعر المرح ليس هو كل الشعر. والأدب الشعبي هذا أي العامية هو الذي عبّر بصدق وحرية عن قضايا الشعب، وهو الأدب الذي رفع بيرم التونسي لأن يحصل على لقب فنان الشعب، وفي تاريخنا الأدبي نفرق دائماً بين الرسمي والشعبي. محيط : لماذا يواجه الشاعر العامي تهمة السطحية؟ - المسئول عن هذا الهجوم هو غياب النقد عن شعر العامية، واعتباره شعر درجة ثانية، حتى أنه لا تفسح له المجالات في الدرس الأكاديمي، رغم أن ثورة يوليو أنشأت كرسياً للأدب الشعبي في الجامعة وكان وقتها في الموال. وتتهم العامية أنها تفرق الأمة العربية وتدفعها إلى التشرذم، رغم أن ما يفعل ذلك هو الممارسات السياسية وليست اللغة، فكثيراً ما كانت العامية المصرية سبباً في توحد العرب، حين فرقتهم السياسة، فلماذا لا نعتبر اللهجات العامية في كل البلدان عنصر قوة عبر التعدد فهو ثراء للأمة العربية. كما أن الفصحى في مصر غيرها في بلدان عربية أخرى، فاللغة تحمل ثقافة البيئة. وشاعر العامية يوظف كلماته لتحمل مفاهيم أكثر عمقا عن لغة الناس في معاملاتهم اليومية . وأذكر حين صدر لي من دار "الملتقى" ديوان بالعامية زامن صدور ديوان لشاعر الفصحى عفيفي مطر، فوزع ديواني 120 نسخة مقابل 90 لمطر، وهي نسبة ضئيلة في الحالتين، مما يؤكد أنه لا جمهور للشعر سواء للفصحى أو العامية، لأسباب لا تخص الشعراء بل لتدني مستوى التعليم وعلاقة الجمهور بالقراءة بشكل عام. محيط : لماذا انتقدت إذا كتاب "زمن الرواية" لدكتور جابر عصفور ؟ - لأنه ليس زمناً للرواية أو الشعر، الوسائط الأخرى هي المرجع لزيادة المعارف الآن، وأصبحت القراءة تتم أيضاً في إطار هذه الوسائط، رغم أن في أوروبا المواطن بيده كتاب دائماً في رحلات المترو، ولا زلنا نرى كتباً تحقق مبيعات بالملايين هناك لأن جمهور القراءة موجود. أما في مصر فالرقم الذهبي لدينا لأكثر توزيع هو ثلاث آلاف نسخة، حتى لأديب نوبل نجيب محفوظ، وذلك بسبب التعليم الذي يهمل الثقافة المعاصرة ويقرر على الطلاب محفوظات مملة تسهم في إبعادهم عن الكتاب بشكل عام. ليصبح حب القراءة هوى خاص مثل الرسم والموسيقى، فكيف يمكن أن يتطور حب القراءة في ظل وجود مكتبة مدرسية هزيلة، وبدون حصة مكتبة، كما أن البيت المصري ابتعد عن الكتب وإن وجدت فهي في أغلبها للديكور فقط. فضائيات مصر محيط : ماذا عن تجربتك مع "قناة التنوير" التي ترأستها 10 سنوات ؟ - لا يمكنني مناقشة الإعلام الثقافي بشكل منفصل عن منظومة الإعلام ككل، فالإعلام الثقافي يعني لي أن يكون الإعلام نفسه مثقفاً أي يمتلك رؤية، وليس بوقاً لسلطة وليس سطحيا دعائيا . والفصل بين الإعلام والثقافة جعل المادة الثقافية مستضافة وليست أصيلة في تكوين الإعلاميين ومضامين ما يقولونه. وقد توليت رئاسة قناة "التنوير" في عهد حسن حامد رئيس ماسبيرو وكان مثقفا ومتحمسا للقناة، ثم توالت القيادات نجوى أبو النجا، ثم تهاني حلاوة، ثم أسامة الشيخ، ولم يقم أحدهم بتشجيعنا بل على العكس أعلنوا حربا شعواء ، وكلهم تقلدوا مناصبهم بالتقادم الوظيفي، عبر إعلام موجه لحساب السلطة القائمة يساهم في مزيد من التجهيل والرقابة والخوف. ورغم أن الفضائيات العربية أنشأها إعلاميون مصريون، فقد سبقتنا كثيرا . وللأسف أغلقت قناة "التنوير" بعد أن خرجت على المعاش عام 2008، فعل ذلك أسامة الشيخ "الجاهل الكبير"، وقد كتبت فريدة النقاش رئيس تحرير صحيفة "الأهالي" في مقالها الأسبوعي منذ أيام تدعو وزير الإعلام أسامة هيكل لإعادة قناة التنوير من جديد، في وقت تزدحم قنوات التسلية والضحك في التليفزيون. محيط : كيف تقيم الإعلام بعد الثورة؟ - لا زال التليفزيون المصري يركز بكاميراته على النيل الهادئ، ولا يزال إعلامنا عاجزاً وليس مبادراً، أداؤه كما هو ليس فقط لوجود الرقيب، بل لأن الإعلاميين اعتادوا على العبودية، والتبعية ولذلك فالإعلام يحتاج إعادة تأهيل وتكوين مثله في ذلك مثل الشرطة. ونحتاج لتغيير الرؤوية لإستخدام الإعلام ليصبح أداة الفكر والثقافة بلاً من الإغراق في التفاهة والسطحية، ولنا في البرامج الرمضانية خير مثال، فهم يكرسون لوجوه معينة دون غيرها، خاصة في الشعر فنجد في شعر الفصحى حجازي وجويدة، وفي العامية الأبنودي وسيد حجاب. فاروق جويدة الذي اشتهر بالهجوم على الفساد عبر كتاباته في صحيفة "الأهرام"، يستولى هو على مساحة الشعر في الصحيفة والمفترض فيها تقديم شعراء جدد . وقديما لما الشاعر فؤاد حداد مسئولية مجلة "صباح الخير" كان يقدم في مساحته الأسبوعية شاعراً جديداً، وهكذا فعل صلاح جاهين، على العكس مما يفعله الأبنودي مثلاً حين سئل في برنامج عن اسم يراه بارزاً في شعراء العامية في الجيل الحالي، فأجاب بتلقائية "هو أنا مت" مستنكراً أن يظهر غيره في وجوده!. وأخيرا على الإعلام أن يراقب الإعلانات التي تبث سمومها دون رقيب، وتمر كذلك مواد تسخر من القيم والمفاهيم. محيط: متى يمتليء تابوت الشعر على حد تعبير إحدى قصائدك؟ - قلت في قصيدة لي "الشعر تابوت/ يفضا ويتملا"، ومع ذلك لا طقوس لي مع الشعر، لأني لا أؤمن بالوحي والإلهام، فالشعر عمل وإنتاج، لأن النص الجيد هو ابن التجريب والمحاولة المستمرة. وتابوت الشعر لا ينتهي أبداً لأنه مثل الحياة متجدد، ويبقى ببقاء الإنسان، ولذلك أجيب على المؤمنين بانزواء الشعر أنه لا يمكن أن يحدث له ذلك، حتى في عصر الوسائط الجديدة، فلن ينتهي الشعر لأنه ابن شرعي ولصيق بالإنسان من حيث مادته الداخلية وهي الروح التي يبقى ببقائها.
محيط: لماذا ظل ديوانك "ست الحزن والجمال" حبيس الأدراج طويلا؟ - الأمر لا يتعلق بي، فبعد الانتهاء من الديوان عام 1974 سلمته إلى هيئة الكتاب، لكنه ظل حبيس الأدراج حتى عام 1980 حتى نشره الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور. انتخبت منه 15 قصيدة من مجموعة قصائد كثيرة كنت أقدمها يومياً في إذاعة الشرق الأوسط المصرية في برنامج مع حكمت الشربيني، وأحرقت باقي القصائد حتى لا أعود إليها، والديوان أثّر كثيراً في الوسط الثقافي، على الرغم من أنني عند كتابته لم أقرأ حرفاً في شعر العامية، وقصائده حملت ملامح النكسة.