بكى الموريتانيون شعراء ومثقفين وذواقة للأدب الروائي، أمس للأسبوع الثاني الأديب السوداني الكبير الطيب صالح الذي وُوري الثرى في أم درمان يوم 19 شباط (فبراير) الجاري عن عمر يناهز الثمانين. فقد خصصت الصحف الحكومية والمستقلة ملفات لعبقري الرواية العربية كما حفلت بمقالات وذكريات بمناسبة رحيله عرفت فيها بأدبه وركزت على علاقاته بموريتانيا وحبه لبلاد شنيقط وشغفه بأدبها وولعه بباديتها العربية الأصيلة التي كانت تشبه في نظره وطنه السودان أو أرض سنار كما أكد هو نفسه أنها كانت تسمى قبل الاستعمار. زار الأديب السوداني الراحل الطيب صالح موريتانيا التي أكد مرة أن أصوله ترجع إليها، في شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1975، حيث كان يشغل منصب مدير وزارة الإعلام القطرية. وقابل الطيب صالح الرئيس الموريتاني الراحل المختار بن داداه كما أقيمت له عدة حفلات وزار مدنا في العمق الموريتاني. وخصص الأستاذ محمد محمود ودادي وزير الثقافة والاعلام السابق مقالا مطولا لذكرياته مع الطيب صالح أكد فيه أن الطيب ترك بصماته على الأدب الروائي العربي، الذي بعث فيه الروح من خلال مجموعته موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين ومريود ودومة ود حامد وضو البيت وبندر شاه وعشرات المقالات والمحاضرات، التي نشرت بلغات كثيرة، خاصة العربية والإنكليزية، التي كان يتميز بالتعمق فيها عن غالبية نظرائه العرب. وقد سماه العديد من النقاد. الغوص في أعماق الحياة وأشار الأستاذ ودادي وهو علم كبير من أعلام الثقافة في موريتانيا إلى أن الطيب صالح ابتكر نهجا أعطاه ميزة عن غيره، هي الغوص في أعماق الحياة السودانية، بما تحمل من تراث غني متشعب المصادر، بأسلوب جريء وصادق، معبرا بطريقته المباشرة الراقية عن جوهر الإنسان بطيبه وخبثه، وبساطته وتعقيده، وغضبه ورضاه، مما جعل العالم، خاصة في الغرب، يكتشف جوهر الإنسان العربي الإفريقي المسلم، ويجعل العديدين منهم يعيدون النظر في خلاصات الاستشراق التي بنوا عليها نظرتهم وتعاملهم مع الجنوب وأهله. ويضيف السيد ودادي يشترك الطيب صالح مع أبطال رواياته، في الكثير من الصفات، فهو خليط بين المثقف الخلوي (أي خريج المدارس الأهلية) الذي تربى في سودانه على أدب المريدين وزهد المتصوفين، وبساطة القرويين، وكد الفلاحين، وبين طموح المثقف المتضلع في فنون الأدب والرواية والمسرح، الغارق في هموم الإنسان والوطن، المنافح عن عالمه المظلوم، في فلسطينوجنوب إفريقيا، جنديٌ في الصراع بين الشمال المهيمن، والجنوب المناضل، مخلدا ذلك في (موسم الهجرة إلى الشمال) وفي مقالاته ومحاضراته. اعتدالية الرجل ويؤكد ودادي على اعتدال الطيب صالح فيقول كان الطيب صالح في كل هذا معتدلا دوما في طرحه كما في مزاجه، يفر من المغالاة والتطرف، متمسكا حتى النخاع، بلغته العربية وثوابته الحضارية، وقيمه الإنسانية. إن عبقرية الطيب صالح، يقول الأستاذ ودادي، تكمن في أنه يكتب كما يعيش، لا يتصنع، لا يقلّد، ولا تجذبه المغريات إلى الخروج عن النسق الذهني والمنهج الذي اختاره، فقد دون ما يرضيه، قائلا: إن ما يهم، أن نحتفظ بميزاتنا التي تميزنا عن باقي الأمم، فإذا استعرنا صفات الآخرين نصبح مسوخا؛ وبذلك ابتكر الطيب صالح منهجا للروائيين، قبل غابرييل ماركيز وروائيي أمريكا اللاتينية، ومثّل بجدارة إفريقيا بجناحيها الشمالي والجنوبي في عالم الأدب، مما جعل منه أجدر مرشح لجائزة نوبل للآداب، حتى ولو قال إنها لا تشغل باله. ثورة في الرواية العربية لقد أدخلت أعمال الطيب صالح، يؤكد السيد ودادي، ثورة حقيقية على الرواية العربية، لأنها لم تجترّ ما سبقها من تراث روائي، سواء في المضمون، أو الشكل، فجاءت بأحجامها الصغيرة وشخوصها الأصيلة وهمومها المحلية، بعيدة عن المسوح التي أبعدتنا عن ذاتنا وواقعنا، وغربتنا عن أوطاننا، عملا فريدا في عصرنا المائع. ويمتزج الأستاذ ودادي مع أدب الطيب صالح فيقول بعد قراءتي ل(موسم الهجرة إلى الشمال) و(عرس الزين) شعرت وكأني قرأت في سفر حياتي في الحي البدوي الذي عشت فيه، وفي قرية وادي الرشيد (شمال شرق موريتانيا)، بشخوصها وهمومها وتفاصيل العلاقات اليومية بين البشر والأشياء، وصراعهم الدؤوب. تابو علاقة الرجل بالمرأة ويمضي ودادي قائلاعندما أبديت للطيب صالح يوما استغرابي لجرأته في طرق موضوع العلاقات بين الرجل والمرأة، المسكوت دوما عنها، رد ضاحكا إننا في هذه، أكثر ارتباطا منكم بعادات وسلوكيات إخوتنا في جنوب القارة، لكننا نسجل لكم السبق بلاءيْ عقد الزواج: لا سابقة ولا لاحقة، التي تضع المرأة الموريتانية في أفضل مكانة. وفي أحد تعليقاته على رأي بعض النقاد، الذي عاب عليه طريقة مقاربته العنيفة للصراع مع أوروبا، لم يخش الطيب صالح أن يصف كتاب الضفة الجنوبيةالشرقية للبحر المتوسط بأنهم أوروبيون من منطقة قريبة من اليونان، أما نحن (أهل الجنوب) فواضحون وحريصون ومختلفون. مضيفا إنني كتبت بهذا الإحساس (عنف الصراع مع الغرب) لأنني عشت في لندن سنوات أطول، وتعمقت في حياتهم أكثر من هؤلاء الأساتذة. رجل التأمل الدائم ويتابع ودادي وخلال لقاءاتي المتعددة بالطيب صالح، كنت اشعر بأنه وهو في هدوئه وحركاته ونظراته يناجي نفسه، ويتأمل حتى في البديهيات، يستمع إليك بأدب واحترام رغم شرود نظراته، يخاطبك بصوت جهوري وبلغة تغلب عليها نبرة أهل السودان الشجية؛ يلبس بتقشف ولكن بأناقة، سواء في زي الفرنجة أو في الثوب والعمامة والنعل المرقط، وهذا ما جعل محمد بن عيسى سيد أصيلة ومهرجانها السنوي، يصف الطيب صالح بالولي الصالح حتى بدون عمامته ويقول إنه كلٌّ كامل، لا ينافق ولا يحابي، لا يحاسب ولا يلوم. وبكى الأستاذ محمد كابر هاشم عميد الأدباء الموريتانيين الطيب صالح في مقال آخر بعنوان وداعا للأديب الكبير، والإنسان الطيب، المبدع المدهش. إبداعات خالدة يقول الأستاذ كابر لقد ترك الراحل العزيز ثروة أدبية غنية مثلت جانبا هاما من روائع الأدب العربي والعالمي، وستبقى أعماله (موسم الهجرة إلى الشمال)، و(ضو البيت) و(عرس الزين) و(مريود) و(دومة ود حامد) و(بندر شاه).. وغيرها من إبداعات خالدة في ذاكرة الأجيال. ثم يضيف لقد كان قلم هذا الأديب الكبير، والإنسان الطيب، المبدع المدهش.. قلما للعروبة والعربية.. وقلما للإنسانية ومن واجب الجميع حفظ هذا الجميل لأديبنا الراحل الذي خدم أمتنا بهذه التحف الأدبية الخالدة. ويختم مؤبناً الأديب الكبير إن اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين وهو ينعى هذا الطود العربي الشامخ، ليدعو الأدباء والمواطنين العرب للعمل على إدراك قيمة الفرد في التاريخ الثقافي للأمم. نهاية الهجرة إلى الشمال وتحت عنوان الطيب صالح.. نهاية رحلة الشمال، كتب الدكتور السيد ولد أباه الأستاذ بجامعة نواكشوط قائلا كنت كغيري قد قرأت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) في نهاية السبعينات، فهالتني الرواية الفريدة التي حققت انتشارا هائلا أذهل صاحبها الذي لم يكن، لشدة تواضعه الجم، يرى فيها ما يستحق التنويه والإشادة. تنويه بشعر المتنبي وفضلا عن السبك الإبداعي القوي، يضيف الدكتور اباه، شدتني الرواية المذكورة بمشاهدها وشخصياتها التي لا تختلف في شيء عن سمات المجتمع الريفي الموريتاني، الذي كان الطيب يراه توأم المجتمع السوداني. ومضى الأستاذ اباه قائلا حبب إليّ الطيب شعر المتنبي الذي كان يحفظه بالكامل عن ظهر قلب، وعرفني على درر الأدب الإنكليزي الكلاسيكي، التي كنت أجهلها، وكان يقول لي إنكم أيها الشناقطة سادة الأدب والشعر.. فلا يجمل بك جهل تشارلز ديكنز. لا أصلح للسياسة عرف عن الطيب عزوفه عن السياسة وابتعاده عن الشأن العام، وان كان لم يخف نفوره من ثورة الإنقاذ التي قامت على تحالف البشير - الترابي، بيد أن مقالاته، التي عرّض فيها بحكام السودان الجدد، لم تخرج عن مألوف خطابه اللبق اللين. وقد سألته مرة لماذا يحجم عن الكتابة السياسية المباشرة وهو الذي بدأ تجربته المهنية صحافيا لامعا في القسم العربي بالإذاعة البريطانية؟ أجابني ضاحكا يا أخي إن للسياسة فرسانها وأنا رجل عبيط لا أفهم في أمور الحكم والدولة شيئا.. وقد تعلمت من تجربة سيدنا المتنبي أن الأديب غير صالح للسياسة. ** منشور بصحيفة "القدس العربي" بتاريخ 2 مارس 2009