القاهرة: "تبدو القاهرة لمن لا يعرفها مدينة شديدة الضخامة، غير أن القتلة فقط و هم حالمين بالضرورة يدركون أن ذلك غير صحيح". "هدوء القتلة" رواية طارق إمام الجديدة التي صدرت عن دار ميريت مع بداية العام الحالي يحرر الروائي فيها الأزمنة من ترتيبها المتوارث ويثبت أن الموت هو بداية الحياة وليس نهايتها ، حيث يقول: "اعرف رجلا هناك كان حلمه الوحيد ان يشاهد جنازته مثلما افعل الان". ومن الرواية: "قتلتها لتصير أكثر جمالا كانت فى حياتها امراة قبيحة"، كان البطل يتخذ من القتل وسيلة للتقرب من الله ، ويقول البطل لضحيته: "القتل هو وسيلة اخرى للتأكد والبرهان الأساسى على أن لك جسدا وهذا الجسد حقيقى وانك ايضا على قيد الحياة". البطل المحورى فى الرواية - وفق هشام الصباحى ب"التجديد العربي" - يمارس القتل لمن يشبهه ولمن يحبه ولمن يكره كل على قدم المساواة هو ايضا موظف فى جهاز الاحصاء والتعداد ودائما فى حالة حوار داخلى وهذا الحوار الداخلى هو الذى يسيطر على أغلب الرواية ويتضمن هذا الحوار كل مايحدث حوله ومع الآخرين. القاتل الحكيم الذى يمتاز بحكمة رائعة فى اختيار أداة القتل المطواة التى يرى أنها الأفضل يقول: "استطيع ان اقتلك بمطوتى .. رغم أن المسافة بيننا تلائم طلقة لا نصل..المطواه تجعلك قريبا من ضحيتك..تلتصق بها فى لحظة نهايتها مستشعرا لذة التوحد" ثم يقول "يقولون أن لا أحد يقتل مرتين على يد نفس الشخص غير انى لم اصدق ذلك ابدا". ويضيف المصباحي: تمنحك الرواية تفاصيل جديدة مثل الإنسان الذى يموت أكثر من مرة ، والميت الذى يشاهد جنازته ويطمئن على أنه يدفن فى القبر الصحيح . من الرواية نقرأ: مع أول خيوط الفجر، خرجت سوسن إلى بلكونتها، كما تفعل يومياً .. وبدأت تنشر كمية ضخمة من "الغسيل " على حبالها .. هي ملابس زوجها المتوفى وأبنائها الذين لم تنجبهم. تقف متأنقة، بكبرياء شائخ، في تنورات قصيرة تلائم آنسة في بدايات قرنٍ مضى.. غير أنها غائبة على الدوام كأنها استيقظت ذات صباح لتكتشفَ أنها تعيش بدلاً من شخصٍ آخر. ورغم أن خصلات شعرها الأبيض كانت تتطاير مع هواء الصباح الخفيف كعلامات رعب .. إلا أنني أكتشفتُ أن لها عينين جميلتين، شابتين، وأن جسدها خفيف حتى أنها لو قررت في المستقبل أن تقفز من البلكونة لتموت، لن تتألم . بدأت أُدخن سيجارة، كما هي عادتي، مستنداً بنصف جسدي على حافة البلكونة .. بينما انهمكت هي في عملها اليومي دون أن توجه لي نظرة. منذ جئت إلى هُنا ، صارت سوسن هي شريكة صباحاتي الأشد سرية وغموضاً: كنت أتأمل وجهها كلَّ صباح كأنني أودِّعه .. وكأن المرأة التي أفسدت عليَّ وحدتي، وشاركتني فيها دون استئذان .. والتي تُخلِّص غرفها مع كل طلعة شمس من الملابس ليست سوى أخت منحتني حق جيرتها وحرمتني - رغم ذلك - حق أن تموتَ بين يدي. يومياً، وبعد خروجي إلى بلكونة شقتي المرتجلة بدقائق، ألمح الشيش ذي الضلفتين ينفتح. تدلف سوسن إلى البلكونة فجأة كأن يداً بالداخل قد قذفت بها عنوة لتواجه الضوء. لم تنظر إلىَّ أبداً طيلة ثلاثة أشهر، كأنني لم أوجد. كأن ضيفاً جديداً لم يعد يراقب يديها. ربما هذا هو أكثر ما استفزني في تلك الجارة. يؤلمني جداً أن يُطلعني شخص على حقيقة أن وجودي شيءٌ هامشي.. حتى لو لم يقصد. لو غادرتُ هذه الشقة الآن، وللأبد، لن يتغير شيء في العالم .. مثلما لم يتغير شيء عندما جئت. لن تشعر امرأة تسعينية أن شخصاً يعرفها لم يعد هُنا. ها هو صوتُ همهمتها الخفيضة يصلني دون أن أميز حرفاً .. أفشل دائماً في التقاط أية كلمات من هذه الشيخة .. وحتى عندما تصرخ في بعض الأحيان بسباب متداخل غضباً على الطيور التي تركت مخلفاتها على ملابسها .. يصلني الصوت فقط . عندما تنتهي من صف الملابس على حبالها كانت تنسحب فجأة أيضاً. لا تستدير.. بل تتحرك للوراء، في خط مستقيم، كأن نفس اليد التي قفذت بها تجرجرها للداخل. لا تعود المرأة للظهور بقية اليوم. لا أعرف لماذا ينتابني خوف غريب بينما أتطلع للملابس المجعدة التي تهتز أمامي، بتؤدة. تتحرك أكمامُها بوهن كأطراف عاجزة كنت أشعر أنها أشباح تحرس وحدتها.