الدكتور/ بليغ حمدى إسماعيل كأن بعض التيارات المنتسبة اسماً إلى الاتجاه السلفي السياسي لم يستفيق بعد من حزمة الصراع الفكري بين اليمين واليسار ، ولم تدرك أن السفينة اجتازت البحر حتى استقرت على الشاطئ الآخر ، إلا أنهم لم يفطنوا أن للبحر شاطئين مختلفين وهذا التنوع هو الذي أكسب الحياة خاصية التدافع والعمل ومن ثم النجاح والتمايز فيه . لكن هناك حملات موجهة دائماً تستهدف إخماد حركة الذهن ، وهذا ما تفعله بعض الصحف ذات الصبغات الدينية التي نجحت في مزج الدين بالسياسة مزجاً لطيفاً لدرجة أنك لن تسطيع التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي ، لذا لن تجد حرجاً في إدعاء أن المواطن أصابه لغط سياسي وازاه على الجانب الآخر لغط ديني. الغريب أن هؤلاء الذين يمجدون الماضي ويرفضون رفضاً قطعيا الحداثة بوصفها فكراً غربيا وافداً هم أنفسهم حداثيون ، فالسلفية نفسها حركة تجديدية وتحديثية ، حيث التجديد والبعث بالعودة إلى الماضي ، وهو ما يعرف أيديولوجياً بالحداثة المعكوسة ، كما أن الذين ينادون بالسلفية ورفض ما دونها من تيارات فكرية أخرى هم أنفسهم معاصرون وحداثيون ؛ من حيث إنهم يقيمون حواراً مستمراً بين النص والحياة الواقعية ، لذا ترى من بين السلفية تيارات عدة تتنوع وتتعد مسمياتها مثل البعث ، والإصلاح ، والنهضة ، واليقظة ، والصحوة . بعبارة أدق أن الذين يصرون على مهاجمة الدعوات والصيحات التجديدية مكتفين بالاقتداء للسلف حسب فهمهم للنص الديني ، هم أنفسهم دعوة متجددة دائماً وهي ملائمة لعصرنا ولكل عصر ؛ لأنها تربط المؤمنين بالينابيع الصافية ، وغير قاصرة على عهد بعينة ، فالمشكلة لديهم هي صعوبة التعامل مع العقيدة بشكلها الخام ، رغم أن العقيدة ذاتها تفسر وتوجه التغيير . وفي صراع تلك التيارات مع الأيديولوجيات المتباينة التي يمكن توصيفها بالأيديولوجيات المدنية تكمن مشكلة تحقيق التكيف والتوافق ، فالسلفية تسعى جاهدة لتكريس ثقافة الجذور بالسلف وهي مع ذلك تجد نفسها في مأزق جلي وهو محاولة الاحتفاظ بالثبات والحركة سوياً ، فتضطر إلى أن تقتفي سياسة الانتقاء الإرادي بين المعطيات والمتغيرات الجديدة ، مثل إمكانية التكيف مع التكنولوجيا ، مع إبعاد واستبعاد أنماط السلوك والتفكير الذي يصاحبها. هذا الاستبعاد يجعلنا نبحث عن أسئلة تتعلق بموقف التيارات الدينية من الحراك السياسي الذي لا يكون لها دورٌ مباشر فيها مثل العصيان المدني مثلاً ، هذا العصيان الذي جاء بدون شق عصا الطاعة لأن الشعب منذ الخامس والعشرين من يناير لم يعرف أمر السمع والطاعة في المنشط والمكره سوى مرتين ، الأولى حينما سيق الشعب نحو صناديق الاستفتاء على تعديل بعض مواد الدستور الذي كان أولاً منذ شهور بعيدة مضت وأصبح اليوم الدستور تائهاً بين الانتخابات الرئاسية ، وبين هوس الميدان المحموم نحو الاعتصامات وحالات الكر والفر التي لم يجد لها مجلس المرجعية الدينية مخرجاً للقضاء عليها . والمرة الثانية حينما استعدت التيارات الدينية لمعركة الصناديق في انتخابات مجلس الشعب ، والتي ذهب المواطنون إليها وهم يمنحون هذه التيارات التي باتت حبيسة المشاركة في المشهد السياسي طوال عقود ثلاثة ، فأعطوهم أصواتهم لاعتبارات متباينة لا تخفى عن الرائي والناظر لهذا المشهد السياسي ، فمنهم من كان يتشفى في سقوط الحزب الوطني المنحل وكأنه يريد إعطاءه درساً أخيراً في إرادة الشعب غير المزيفة ، ومنهم من جند نفسه لحرب الليبراليين الذين هم من وجهة نظرهم خارجين مارقين على تعاليم الشريعة الإسلامية ، ويكفيهم في ذلك أن لفظة ليبرالية منحوتة من كلمة أجنبية أتت إليهم من بلاد الشرك والضلال . ومنهم من استطاع أن يقنع نفسه بأنه في جهاد ضد أقباط مصر ، وما الانتخابات سوى معركة تظهر قوته أمام ضعف التواجد القبطي في الحراك السياسي في مصر ، بخلاف الحشود الموجهة أيديولوجياً لمصلحة التيارات الدينية نفسها. ولا يستطيع جاحد أو منكر الاعتراف بقدرة التيارات الدينية على الاستفادة من المقدرات التاريخية التي ورثوها عبر سنوات كفاحهم ضد الأنظمة الحاكمة ، فاستفادوا جد استفادة من عهود القمع والمعاناة والاضطهاد التي مكثوا من خلالها في ظل الأحداث السياسية اللهم سوى بعض العمليات المسلحة في تسعينيات القرن الماضي . كما أنهم تمكنوا في في زمن قصير وسط زمرة الاستعداد للانتخابات الإفادة من الروابط التقليدية للأسرة المصرية الغائبة عن المشهد السياسي منذ عقود ، وهذه الروابط هي التي مكنتهم من القدرة على تحشيد وتجييش النفوس والمشاعر وأغيراً الأصوات في معركة انتخابية بمقاييس ما يحدث في بر مصر الآن من فوضى أظن أنها معركة خاسرة كشفت عن مدى عجز تلك التيارات في احتواء أزمة الميدان وبلطجة المشجعين و مؤامرات الفلول . وأخيراً جاءت دعاوى العصيان المدني يكشف عن وجه جديد لبعض التيارات ذات الصبغة الدينية ، فهناك حركات ائتلافية ومنظمات مجتمعية وحركات جامعية أعلنت أنها ستقيم إضراباً مدنياً سلمياً في ذكرى التنحي ، مستهدفة في ذلك التعجيل بتسليم السلطة لحكومة مدنية ، ولا يهم من يتسلمها باعتبار أن مصر في ظن هؤلاء الداعين للعصيان مجرد قرية صغيرة يديرها شيخ البلد في ظل غياب العمدة الذي بالضرورة كان أحد أنصار الحزب الوطني المنحل .وكذلك التعجيل بحسم في محاكمة رموز النظام البائد بصورة جازمة وحاسمة لا تقبل التشكيك في نزاهة القضاء المصري الذي من قبل كتب فيه مقالاً بجريدة القاهرة بعنوان (أزمة جناحي العدالة في مصر ) . ورغم أن هذا العصيان باء بالفشل نتيجة مواجهة طيبة القصد ومثمرة التوجه من بعض رجال المؤسسة الدينية الرسمية كشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ومفتي الديار المصرية الدكتور المستنير علي جمعة ، وكذلك جهود بعض المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية الذين لم يتأهبوا بعد لتسلم البلاد ولم يحسموا موقفهم السياسي بعد تجاه المجلس الأعلى للقوات المسلحة . وكذلك بعض الجهود الذاتية التي قام بها بعض رجال الدين كالشيخ محمد حسان وغيره في توجيه انتباه المصريين (المسلمين فقط ) بأننا نركب سفينة واحدة إذا غرقت غرقنا جميعاً على حد وصفه . إلا أن التيارات الدينية الضاربة انتشاراً في طول وعرض مصر اكتفت بالإعلان عن عدم مشاركتها في هذا العصيان المدني والإضراب العام عن العمل ، مجرد الإعلان بعدم المشاركة ، رغم أن قوى سياسية كثيرة في مصر وصفت عدم مشاركة هذه التيارات في العصيان بأن هذا دليل على ضعف الهوية الوطنية ، وأنهم بذلك يعمدون إلى تفكيك القوى والتيارات السياسية ، معلنين بذلك إلى ولائهم الضيق لجماعة معينة دون غيرها ، وغير ذلك من الاتهامات الكثيرة التي وجهت إلى هذه التيارات. والغريب أن هذه التيارات كان ينبغي عليها أن تعترف أولاً بفضل الديموقراطية التي سنحت لهم في الوصول إلى اعتلاء المشهد السياسي ، إلا أن الثقافة الدينية لديهم لا تسمح بالتحول الديموقراطي المغاير ، فكان من الأحرى أن يرصدون حركة هذا العصيان وإقامة منتديات حوارية مثل التي يقيمونها لتعرف وجهة نظر الداعين لهذا العصيان ، لكن لأن هذا الإضراب لم يدخل في أجنداتهم السياسية لم يهتموا بهذا . ناهيك على أن التيارات الدينية وجدت في دحض هذا العصيان المدني فرصة طيبة في اندماج الأيديولوجيات الدينية في منظومة السلطة ، بخلاف المواطن ذي الهوية المصرية الذي قرر عدم انصياعه لهذا العصيان من باب أن بلاده تأمل فيه خيراً ، وأن أيامنا تلك هي مفرق طرق نأمل الوصول من خلالها إلى بر الأمان ، وهو في ذلك غير طامح لمقعد برلماني أو لمجلس استشاري يضمن عضويته . بيد أن معظم التيارات الدينية التي نجحت في دحض فكرة العصيان المدني علقت هذا العصيان على شماعة التوجهات العلمانية الغربية ، والدعاوى الليبرالية الداخلية والتي تقودها بعض الحركات الشبابية ومجموعة من الائتلافات الثورية التي صنعت الثورة ولم تقفز عليها مثلما صنعت بعض هذه التيارات الدينية . ومشكلة التيارات السلفية أنها قليلة الثقة بالإنسان ، مفترضة بأن الإنسان بالضرورة يتجه إلى الأسوأ ، حتى ولو كان تغييراً ، وهذا ما يفسر تأخر القوى السياسية ذات الصبغة الدينية في الانخراط الثوري المباشر في بدايات ثورة الخامس والعشرين من يناير ، وكثيراً ما أسمع حتى لحظة الكتابة من بعض رجال الأزهر الذين تربطني بهم صداقات عميقة أن ما حدث في مصر من ثورة هو خروج على الحاكم . إذن لابد وأن نقر حقيقة واقعية ونحن نرصد حالة العصيان المدني التي شهدتها مصر في الحادي عشر من فبراير الجاري ، وهي أن عدم استجابة التيارات الدينية لمثل هذه الدعوة ترجع إلى سببين ، الأول هو أن المشاهد السياسية تكاد تكون شبه مستقرة في صالح التيارات الإسلامية من إخوان وسلفية وتيارات دينية مشتقة من عباءتهما ، والثاني هو طبيعة السلفية ذاتها ، حيث إنها فلسفة سياسية انقيادية محافظة تتمسك بالانقياد والانصياع والطاعة للواقع التاريخي وتنفر بطبيعتها من الخروج والثورة . وهذا النجاح الملموس والملحوظ الذي حققته التيارات الدينية الصاعدة في قمع حالة العصيان المدني في مهدها كان نتيجة طبيعية لمحاولتها التاريخية في الاحتفاظ بالثبات والحركة سوياً ، إلا أنها اكتفت في هذه المرحلة بتعليق الحديث عن جدوى العصيان ومجرد البوح بعدم المشاركة فيه ، أي أنها طبقت بامتيار نظرية الانتقاء الإرادي ، وهي انتقاء حالة الريادة السياسية التي حققتها منذ اعتلاء معركة الصناديق الزجاجية ، ومن ثم فإن أية محاولة أخرى غير محسوبة قد تفقدهم هذا الرصيد الكبير الذي تم تحقيقه . ولأن للتيارات الدينية المتشددة حيناً والوسطية أحياناً متباعدة ، استطاعوا أن يدركوا بوناً كبيراً بينهم وبين الشارع الذي لا يزال يطالبه بالبرامج الانتخابية التي من أجلها ذهب وانتخبهم ، أدركوا على الفور أنه يجب توجيه هذا الشارع مرة أخرى قبيل انتخابات الرئاسة مستندين في ذلك على المواطن المصري نفسه الذي قد يعاني بصورة مؤقتة من فقدان الذاكرة التدريجي ، فسينسى مطالبه ويؤجل تحقيق مطامحه الشخصية والاجتماعية متعلقاً بأمل مفاده أن المرشح الافتراضي ذا المرجعية الدينية سينجح في تحقيق ما فشل فيه النواب . وأظن أن التيارات الدينية وقتها ستنجح في استخدام النص الديني لمسوغ وحيد لاستمراها ، لأنه هو الذي يمنح وجودها الشرعية والحضور.