في لحظات حاسمة في تاريخ الشعوب والأمم يولد مستقبلها من رحم حاضرها، فما يجرى من أحداث ووقائع وما يستجد من تطورات وتحولات، وما يطرأ من تغيرات، يسهم في رسم حدود المستقبل وتقسيماته، ويحدد خطواته ومآلاته. وإذا كان صحيحا أن هذا القول ينطبق على جميع الدول المتقدمة والنامية على السواء، إلا انه تجسد فعليا فيما شهدته مملكة البحرين خلال الشهور القليلة الماضية من أزمة مجتمعية كادت أن تفتك بأمنها وسيادتها جراء التجاوزات التي ارتكبتها بعض قوى المعارضة البحرينية بحق بلدها ومواطنيها، اعتقادا منها أن الوطن قابل للبيع وان المواطنة مجرد صفة تسجل في بطاقات الهوية، متناسية أن الوطن يسكن في الإنسان قبل أن يسكنه، وان المواطنة انتماء وتضحية قبل أن تكون تسجيل بيانات. ولولا صوت الحكمة ونداء العقل الذي أطلقه العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة وحكومته في فتح المجال واسعا لجميع أطياف الشعب البحريني وطوائفه للجلوس سويا على طاولة الحوار لتبادل الآراء وتقاسم المهام وطرح الرؤى والوصول إلى نتائج، لوصلت البلاد إلى نهاية النفق المظلم بكل ما يحمله من انهيارات وصراعات وانقسامات ليفتح الباب واسعا أمام سيل من التدخلات الإقليمية والدولية على السواء. فلا شك أن الموقع الاستراتيجي والمكانة الإقليمية التي تحتلها مملكة البحرين يجعلها دائما في مهب الأطماع من الجميع. وصحيح أن النجاح الذي حققته القيادة السياسية البحرينية في الخروج من هذا النفق سريعا والوصول بالبلاد إلى بر الأمان يرجع إلى ما تميزت به من حكمة بالغة وحنكة متميزة وخبرة عملية ساعدتها على وضع الأمور في نصابها دون مزايدة أو تزايد، إلا انه من الصحيح أيضا أن التحرك الرصين والحازم والسريع من جانب دول مجلس التعاون لدول الخليج وفى مقدمتهم المملكة العربية السعودية كان له ابلغ الأثر في الخروج بالبلاد من هذا المنعطف الخطير. ولكن، إذا كانت الدعوة الملكية لجميع القوى السياسية بالدخول في حوار شامل دون سقف أعلى للوصول إلى التفاهمات والتوافقات التي ترضى الجميع وتضع خريطة الطريق لاستكمال خطوات الإصلاح الشامل الذي بدأته المملكة منذ بدايات القرن الحالي مع تولى العاهل البحريني الحكم عام 2001 وإطلاق مشروعه الإصلاحي، قد قوبلت بحفاوة دولية وإقليمية ومحلية، بل بدأ بالفعل عقد جلسات الحوار الوطني برئاسة رئيس مجلس النواب البحريني، حيث تنوعت محاوره ما بين سياسي واقتصادي واجتماعي . إلا أن قرار جمعية الوفاق البحرينية بالانسحاب من جلسات الحوار فجأة بحجة انه عديم الجدوى ولن يصل إلى نتائج مرضية وانه مجرد مكلمة لتبادل الآراء دون أن يكون له مردود على مستقبل البلاد، يثير الكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابات واضحة ومحددة بشأن الأسباب التي دعت الجمعية لقبول دعوة الحوار من البداية، رغم رفضها الاستجابة لدعوة سابقة في بداية وقوع الأحداث؟ وما هي الأسباب التي دعتها الآن للخروج من الحوار وعدم استكمال المشاركة فيه؟ وما هي النتائج المترتبة على هذا القرار، خاصة بالنسبة إلى مواقف الجمعية المستقبلية وسياساتها؟ وما هي البدائل المطروحة أمامها خلال الأيام القليلة القادمة؟ وما هو تأثير هذا القرار على مستقبل الحوار ونتائجه؟ وما هو موقف الجمعية من التفاهمات التي يمكن أن يصل إليها المشاركون في الحوار؟ هل تلتزم بها كونها مرئيات حظيت بتوافق مجتمعي أما تظل على مواقفها في رفض كل ما يخرج عن هذا الحوار؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر ذلك على استقرار المملكة وسلامها الاجتماعي؟ والحقيقة أن الصعوبة بمكان التوصل إلى إجابات قاطعة لكل هذه التساؤلات خاصة في ضوء الغموض الذي يلف مواقف وسياسات جمعية الوفاق في رسم خطاها وتوجهاتها، فصحيح أن للجمعية موقف واضح وسياسات لا تخطئها عين في طبيعة توجهاتها السياسية وانتماءاتها الإيديولوجية، إلا انه من الصحيح أيضا أن الجزم بخطواتها وتوجهاتها في خضم ما توصل إليه الحوار الوطني من تفاهمات وتوافقات بين مختلف التكوينات والتجمعات الوطنية يجعلها في موقف لا تحسد كثيرا عليه، حيث أضحت أشبه بمن يغرد خارج السرب، بل ربما يكون التشبيه الأكثر ملائمة أنها تغرد ضد مصلحة الوطن والمواطن البحريني، وهو ما جعلها تفقد مصداقيتها وصدقيتها لدى المواطن الذي أعطاها صوتا في الانتخابات التشريعية الأخيرة اعتقادا منه أنها تعلى المصالح الوطنية وتسعى إلى حماية المكتسبات الاجتماعية التي حققتها المملكة على مدى العقد الماضي، إلا أن ممارساتها اليومية ومواقفها السياسية كشفت عنها غطاءها الذي حاولت طوال السنوات الماضية أن تستر به نواياها وأهدافها الخافية. خلاصة القول أن نجاح الحوار الوطني في التوصل إلى تفاهمات مجتمعية وتوافقات وطنية بشأن غالبية القضايا التي طرحت على طاولته وجدول جلساته يؤكد أن المملكة بقيادتها السياسية ونوابها ومثقفيها وعلماءها ومواطنيها نجحوا فيما فشل فيه آخرون أردوا أن يقودا الركب إلى وجهة أخرى تنحرف بهم عن جادة الطريق إلى ظلم الليل الجانح.