خلال الآونة الأخيرة مُنيت إسرائيل بهزيمة دعائية مدوية، عندما تبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فى جنيف قراراً يصادق على تقرير جولدستون، الذى يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وباحتمال التورط فى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال الهجوم الذى شنته على قطاع غزة فى ديسمبر - يناير الماضيين، واستمر لمدة ثلاثة أسابيع. واتهم التقرير حركة "حماس" أيضاً بارتكاب جرائم حرب لقيامها بإطلاق الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية الجنوبية، ولكنه حدد إسرائيل بأنها المجرم الرئيسي، واتهمها بشن هجوم غير متناسب مع حجم الاستفزاز الذى سبقه بهدف معاقبة، وإذلال، وإرهاب السكان المحليين. والحرب التى شنتها إسرائيل على قطاع غزة أسفرت عن مصرع ما يزيد عن 1400 فلسطينى من بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، كما تسببت فى إلحاق ضرر جسيم بالمنازل والمدارس والمستشفيات والمزارع والمصانع والمرافق والمبانى العامة. وخلال تلك الحرب لقي13 إسرائيلياً مصرعهم بعضهم بنيران صديقة. هل معنى ذلك أن الزعماء الإسرائيليين سواء السياسيين أو العسكريين سيضطرون للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبتهم على أفعالهم؟ ليس هناك شيء أقل احتمالا من ذلك. فالولاياتالمتحدة صوتت ضد القرار، وهناك مؤشرات قوية على أنها ستستغل حق "الفيتو" المخول لها لحماية إسرائيل فى مجلس الأمن، إذا ما شهد مناقشة فى أى وقت لتقرير "جولدستون". ويمكن التوصل إلى عدة استنتاجات فى هذا السياق: أولها، أن الولاياتالمتحدة كما يبدو ليست مستعدة بعد لممارسة ضغط ذى شأن على إسرائيل. وهذه ليست أخباراً جيدة بالنسبة لعملية السلام المتعثرة، حيث يتوقع أن تضيف إلى الإحباط الذى يشعر به العديد من العرب والفلسطينيين على وجه الخصوص، الذى يشعرون بمرارة شديدة عندما يستمعون إلى كلمات أوباما المعسولة حول حل الدولتين، ثم لا يرون انعكاساً لتلك الكلمات على أرض الواقع. بشكل أكثر عمومية، يمكن القول إن جهود أوباما لحماية الولاياتالمتحدة من عداء العالم العربى - الإسلامى قد منيت هى الأخرى بضربة قاصمة. فقد أمل الرجل فى أقناع العرب والمسلمين أن الولاياتالمتحدة ليست عدوة لهم، ولكن الغالبية العظمى منهم ستجد التصويت الأميركى ضد المصادقة على تقرير "جولدستون" عملا محبطاً دون أدنى شك.مع ذلك، فإن التصويت لصالح هذا التقرير (26 مؤيدا، و6 معارضين، و11 ممتنعا عن التصويت و5 من بينهم بريطانيا وفرنسا لم يدلوا بأى صوت على الإطلاق، قد أظهر بجلاء أن إسرائيل تفقد وبشكل يكاد يكون مستمراً المزيد من الأرض على ساحة الرأى العام العالمي. فالدول الرئيسية فى ذلك المجلس مثل الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، وإندونيسيا، والفلبين صوتت جميعها على تبنى القرار كما صوتت عليه بالطبع الدول العربية مثل مصر والمملكة العربية السعودية. أما هؤلاء الذين صوتوا ضده فهم الولاياتالمتحدة، وإيطاليا، وهولندا، والمجر وسلوفاكيا وأوكرانيا. والحرب التى شنتها إسرائيل على قطاع غزة تحمل الكثير من أوجه الشبه بالحرب التى شنتها على لبنان عام 2006 .فحربها على لبنان أدت إلى مصرع 1400 شخص الغالبية العظمى منهم من الأبرياء ما يعنى أن عدد من لقى مصرعه فى الحرب فى غزة ولبنان قد بلغ فى المجل 3000 شخص راحوا ضحية لعقيدة إسرائيل الأمنية. التى تنكر حق أى حركة، أو جماعة، أو منظمة، أو حتى دولة فى الدفاع عن نفسها. فإسرائيل تريد أن تتمتع بحرية ضرب من تشاء، فى نفس الوقت الذى تريد فيه حرمان الآخرين من هذه الحرية. وهى تريد أن تتمتع بحق الردع لنفسها، وحرمان الآخرين منه. فهذه العقيدة الأحادية الجانب التى تسعى إسرائيل من خلالها إلى الدفاع عن نفسها، تفقد على نحو متصاعد الكثير من مصداقيتها فى نظر الرأى العام الدولى كما تفقد الكثير من دعمه كما تبين الحرب التى شنتها على غزة، ومن قبل على لبنان وكما تبين أيضا محاولاتها المحمومة فى الوقت الراهن لتهيج العالم العربى ضد إيران. ومع أن الهجوم على قطاع غزة ينظر إليه على نطاق واسع على أنه كان مشروعا إجراميا، فإن الحصار الذى تمارسه إسرائيل على غزة يمثل فضيحة أخرى لا تقل إجراماً. فخلال الآونة الأخيرة زارت "كارين أبو زيد" المفوضة العامة للأونروا (وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين فى الشرق الأوسط) العاصمة الفرنسية باريس لجمع أموال لمنظمتها التى تعانى من مصاعب جمة. فكى يتسنى توفير الصحة والتعليم والخدمات الأساسية لحوالى 4.6 مليون لاجئ فلسطينى فى غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والأردن فإن الوكالة تضطر إلى توظيف 27 ألف موظف معظمهم مدرسون ومسؤولو صحة مستقطبون محليا كما تستخدم ميزانية بلغت 545 مليون دولار عام (2008). ولكن ميزانية الوكالة، تعانى هذا العام من عجز مالى يبلغ 7 ملايين دولار تبذل قصارى جهدها من أجل توفيره. والصورة التى رسمتها "أبوزيد" عن الأحوال فى غزة، كانت كئيبة إلى أقصى درجة علما بأن الوضع هناك لم يتغير بعد الحرب، وذلك بسبب الحصار الذى فرضته إسرائيل على القطاع، والذى بلغ حداً من الصرامة أنه لم يعد بمقدور أحد تقريباً الخروج أو الدخول من القطاع دون تصريح من إسرائيل. الخبر الطيب الوحيد الذى كان بمقدورها تقديمها وهو أن الأطفال غزة قد فازوا بمركز فى موسوعة جينيس للأرقام القياسية حيث تمكنوا فى الصيف الماضى من إطلاق 3167 طائرة ورقية مصنوعة محليًا فى الجو، فى وقت متزامن وهو رقم عالمي. وعندما سألها شخص خلال تلك الزيارة عما إذا كان الأطفال الفلسطينيون يتعلمون شيئاً عن الهولوكوست فى مدارس المنظمة التى ترأسها؟ قالت ليس بعد... ولكنهم يتعلمون أشياء عن التسامح، وعن حل الصراعات، وعن حقوق الإنسان ومن ضمنها حقهم فى اللعب خصوصاً بعد أن جرى انتهاك كافة حقوقهم من دون استثناء خلال الحرب الأخيرة الرهيبة. وليس هناك من إشارة بعد أن العالم سيعمل من أجل رفع هذا الحصار الفاضح عن غزة.