لا أحد ينكر أن الشعب التونسي تمكن من إسقاط نظام الرئيس زين العابدين بن علي خلال أيام قليلة من إنتفاضة قام بها ضد الفساد والبطالة وغلاء المعيشة دون أن يكون لأي تنظيم أو نقابة أو جمعية أو تيار الفضل في ذلك . كما لا أحد ينكر أن سقوط نظام زين العابدين بن علي في الشارع هو الأول من نوعه في العالم العربي فيما كانت الأنظمة تسقط في السابق عبر إنقلابات عسكرية . ولكن السؤال الآن هو ماذا بعد سقوط النظام ؟ . للإجابة على هذا السؤال حري التنويه هنا أن لا أحد كان يتوقع سقوط نظام بن علي بهذه السرعة إذ كانت الإنتفاضة الشعبية تكبر يومياً مثل كرة الثلج إلى حد أنها عمت كل المدن والمناطق دون خشية من القوى الأمنية التي مارست شتى أنواع العنف والترهيب حيث ذهب ضحية ممارساتها عشرات القتلى والجرحى من المواطنين العزل . لا بل أن القوى الدولية والإقليمية كانت تظن أن الإنتفاضة ستدوم بضعة أيام فقط بعدها سيحاول النظام إيجاد تسوية على قاعدة تقديم وعود بإيجاد فرص عمل ، أو عبر إقالة الحكومة وإعتبارها المسئولة عما يجري في البلاد ، أو إقالة بعض القيادات الأمنية وجعلها كبش محرقة ، وخير دليل على ذلك الموقف الرسمي الفرنسي في بداية الإنتفاضة الذي كان مؤيداً بالكامل لنظام بن علي . كما حري بالتنويه أن أي حزب سياسي أو تنظيم نقابي ممن كان يعارض النظام لم يكن يملك تصوراً عن البديل فيما لو أطيح بالنظام القائم ، لا بل جل ما قامت به المعارضة أنها كانت تصدر بيانات الدعم والتأييد من منطلق تعاطيها مع حدث فرض نفسه على الساحة السياسية التونسية وليس من موقع المحرك لهذا الحدث والمتحكم بمساراته . ولهذا ما إن كبرت الإنتفاضة وأجبرت بن علي مغادرة البلاد حتى دبت الفوضى وكثرت عمليات النهب والسلب والتخريب للمؤسسات العامة والخاصة ، كما شاعت عمليات الإنتقام الشعبية ممن بقي من رموز السلطة في تونس ولم يتوفر له الوقت الكافي للهرب كما فعلت عائلة الرئيس بن علي وأصهرته وأقربائه الذين كانوا من أكبر المستفيدين من خيرات الدولة وثرواتها .ولقد لعب الجيش دورا ًهاماً في هذه الظروف التاريخية إلى حد أنه دخل في مواجهة مع قوى أمنية موالية للسلطة ، ولكن ليس بإمكان الجيش أن يضع جندياً أمام باب كل مبنى ، كما ليس بإمكان الجيش أن يعيد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى طبيعتها لأن ذلك من مهمة المؤسسات الدستورية المتبقية ومن مسؤولية القوى الحزبية والنقابية التي كانت أساسا تحتل مساحة على الساحة التونسية . وإذا كان هناك من مساعي الآن تبذل من أجل تشكيل حكومة إئتلافية جديدة برئاسة محمد الغنوشي بعد أن تسلم رئيس البرلمان سدة الرئاسة إلا أن هناك بالمقابل خلاف حول من يتمثل في هذه الحكومة . هل تأتي من المعارضة فقط ، أو من المعارضة بالتعاون مع تنظيمات كانت موالية للسلطة ، أو من هؤلاء جميعاً إضافة إلى ممثلين عن تنظيمات معارضة لم يكن معترفاً بها ؟ . من هنا يبرز التنافس الآن بين وجوه بارزة من أحزاب المعارضة القانونية، خصوصا تلك التي كانت محرومة من التمثيل النيابي والدعم الحكومي، إلى جانب شخصيات سياسية معروفة بوطنيتها ونزاهتها، تمثل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، والمجتمع المدني، والمستقلين، يضاف إليهم في نفس الوقت الأحزاب غير المعترف بها، والتي كانت تمثل ما يعرف بالمعارضة الراديكالية، مثل حركة النهضة الأصولية المتطرفة، و حزب العمال الشيوعي، والمؤتمر من أجل الجمهورية والحزب الوطني الديمقراطي وحزب تونس الخضراء. وفي حال تم التوافق على تشكيل الحكومة فماذا سيتضمن برنامجها الإصلاحي ، ومتى ستقر موعداً لإنتخابات جديدة في البلاد ، وهل ستحاكم أركان النظام السابق ، وهل ستطالب بإستعادة الأموال المسلوبة التي تم تهريبها إلى خارج البلاد ، وهل تصر على محاكمة بن علي ، ومن هي الشخصية القادرة على تخليص تونس من أزماتها ومعاناة شعبها ، وما هي الإمكانيات المتوافرة ؟ . قد يكون من المبكر الرد على كل هذه الأسئلة لأن المعروف في تاريخ كل دول العالم أن إسقاط نظام قد يكون أسهل بكثير من إعادة تركيب نظام جديد ، ولهذا من المنتظر أن تدوم الفوضى على كل المستويات لفترة زمنية ومن ثم تبدأ الأمور تتخذ منحى التهدئة شرط أن لا تستغل قوى خارجية الوضع الحالي لإحداث المزيد من التأزم .